ذو الفقار قبيسي-اللواء
خلال السنوات ١٩٦٤ و١٩٦٥ و١٩٦٦ انهارت ثلاثة مصارف لبنانية كان آخرها «بنك انترا» وتوالت يومها كما اليوم، سيناريوهات عدة للخروج من الأزمة لإعادة هيكلة الجهاز المصرفي اللبناني كان من بينها «ورقة عمل» تلقيتها في العام ١٩٦٧ من الخبير المصرفي والمدير العام لأحد مصارف Alpha في لبنان أمين علامة، وحرصت على الاحتفاظ بها بالنظر لما تضمنته من أفكار وتجارب عملية الكثير منها يصلح حلولا لأزمات اليوم استنادا الى مبدأ «الزبد يذهب جفاء، وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض».
وبداية تحذّر «ورقة العمل» من أن «تؤدي الأزمة المصرفية يومها الى أن ترتجل السلطة السياسية مشاريع وقوانين لا تستند الى معرفة وثيقة بوضع الجهاز المصرفي ومشاكله، وبالتركيب العضوي للاقتصاد اللبناني، ولا الى معطيات علمية وعملية كاملة في التشريع المصرفي» (وذلك على غرار ما ما حصل ويحصل اليوم «بامتياز» في اجراءات وتنظيرات أدّت الى استفحال الأزمة وتداعياتها بدءا من إقفال المصارف لفترة طويلة والتوقف عن دفع سندات «اليوروبوندز» وتقنين سحب الودائع بالدولار ثم الاقتصار على سحبها بالليرة أو ما بات يسمّى «اللولار» وبسعر صرف أقل من ثلث سعر الصرف في السوق الموازية وفقدان الثقة المحلية والعربية واللبنانية بالنظام المصرفي اللبناني وبلبنان كدولة واقتصاد ومقومات اجتماعية).
وكان أهم ما حذرت منه «ورقة العمل» بما يصلح دروساً لليوم:
أولا: ان الإصلاح لا يجوز أن يكون جزئيا أو على مراحل تتبدد خلالها الثقة بالمصارف وتكثر التكهنات والمضاربات، بل أن يطال الإصلاح دفعة واحدة كل بواطن الضعف في الجهاز المصرفي، وتقديم إجابات بموضوعية ووضوح على الأسئلة التالية:
أ: ما هي العيوب في قواعد تنظيم مصرف لبنان وعلاقته بالدولة ودوره وعلاقته بالقطاع الخاص؟ ما هي العيوب في وسائل الرقابة ووسائل السياسة النقدية؟
ب: ما هي الأعطال الأساسية في الجهاز المصرفي اللبناني عامة؟
ج: وهل يمكن أن يؤدي أي نقص في التشريع المصرفي الحالي الى تداعيات مصرفية غير متوقعة والى أن يكون عقبة أمام نمو المصارف والاقتصاد، أم ان كل الاعتماد هو على الثقة والثقة فقط؟!
د- وهل ان توسع المصارف وطبيعة توظيفاتها (كما في نموذج «انترا» يومها والى حد كبير اليوم) دليل على حاجة البلاد الى نوع جديد مختلف من المؤسسات والى تشريعات تساعد على تحويل شطور من الموارد المالية الى كافة اعضاء الجسم الاقتصادي كله؟
ثانيا: ان أي تسرّع أو ارتجال في اعداد المشاريع والقوانين سوف يعود بالضرر. وأي مشروع لا تقدر كافة احتمالات نتائجه سلفا، هو مشروع لا يفيد. ومثل ذلك مشروع مؤسسة ضمان الودائع (المقدم يومها من الدكتور طلحة اليافي) الذي يجب أن تؤدي دراسته واعداده الى جعل هذه المؤسسة قادرة بالفعل على ضمان الحد المطلوب والمناسب من الودائع خلال الأزمات. مع ملاحظة الخطة ان المشروع الذي يضمن «الودائع الجارية والثابتة المصرح عنها» لا يحدد مثلا وضع «شهادات لأجل»، أو وضع الأرصدة الدائنة عرضا في حسابات السلف الجارية، أو قيمة الشيكات المأخوذة برسم التحصيل أو المقبوضة، أو الأموال المودعة على سبيل التأمين، أو قيمة الشيكات المباعة وغير المدفوعة.
ثالثا: ان مشروع الحكومة يومها بعزل مجلس إدارة أي مصرف لا يقوم بالتزاماته ويتوقف عن الدفع، وترك تعيين مجلس إدارة بديل للتدخلات السياسية والحزبية والشخصية، يشكل خطرا على الثقة العامة وعلى الودائع، وبالتالي ينبغي اختيار أفضل الكفاءات والخبرات العلمية والعملية والنزاهة الأخلاقية للقيام بهذه المهمة بما يمنع المزيد من الخسائر ويحقق أفضل النتائج المادية والمعنوية.
رابعا: يجب أن يكون التشريع الجديد دقيقا ومرنا في آن واحد، فلا يتوخى ضبط العمل المصرفي فحسب وإنما أيضا تنشيط القوى المنتجة ودعم الاقتصادات الحيوية، وبالتالي أن لا يلجم النشاطات المصرفية المنظمة الكفوءة بل التيارات الفوضوية والفاسدة. فالإدارة المصرفية في لبنان تعاني ضعفين خطيرين حيث بعض المصارف إما ضعيفة الأخلاق أو قليلة الكفاءة أو الاثنان معا. وبقاء هذه العناصر في الجسم المصرفي بات يشكّل خطرا على الاقتصاد الوطني عامة وعلى نخبة من المصارف الوطنية التي تسير أعمالها بناء على درس وتحفظ وتخطيط وكفاءة وأخلاق، وعكس العناصر الخطرة والفاسدة التي أصبحت حقيقتها مكشوفة عارية من المساحيق، والأصابع كلها تشير إليها. فهذا باع نفسه للشيطان لقاء راتب، مهما كبر، فهو ثمن بخس، وذاك سرق، بالرشوة يقبضها لقاء ديون هالكة أسداها، جزءا من أموال المصارف التي تقلب على إدارتها، وذلك الأخير منح نفسه التسهيلات الكبيرة تحت أسماء استعارها من الأحياء والأموات معا.
خامسا: ان خلو المجلس المركزي لمصرف لبنان من ممثلي الفعاليات الاقتصادية في البلاد يسفر عن رسم سياسة نقدية لا ترتكز الى معرفة حية بواقع الاقتصاد الوطني ومشكلاته الحقيقية ولا تتجانس مع طبيعته وأهدافه. وهذه الثغرة في تنظيم المجلس المركزي تؤدي الى أن يبقى مصرف لبنان جهازا روتينيا جامدا لا حياة تتدفق في قراراته خصبا وحركة، والى أن يتخذ وينفذ، بناء على نظريات مستوردة ترتكز الى تحليل سطحي للاقتصاد الوطني، والى معرفة كمية لا نوعية بأوضاع المصارف ومشاكلها، فنصل في نهاية المطاف، الى شل حركة المصارف اللبنانية وأداة الديناميكية التي تتميّز بها الأعمال في لبنان. في حين يمكن الاستفادة في هذا المجال من تجارب الشعوب الأخرى في مثل هذه الأمور الخطيرة، على غرار مثلا ما في فرنسا التي نقلنا عنها قسما كبيرا من تشريعنا، حيث مجلس الائتمان الفرنسي الذي يرسم السياسة النقدية مؤلف من ٤٠ عضوا يمثلون مختلف القوى النشيطة في البلاد forces actives du pays, وفي سويسرا يشرف على «البنك الوطني» أي المركزي، مجلس إدارة مؤلف من ٤٠ عضوا: ٢٥ منهم يمثلون المقاطعات السويسرية، و١٥ عضوا يمثلون المساهمين (كون البنك المركزي السويسرى مؤسسة يساهم فيها القطاعان العام والخاص). وأما في الولايات المتحدة فمصارف الاحتياط الأميركية الـ١٢ يديرها مجلس إدارة مؤلف من ٩ أعضاء: ٣ يعيّنهم مجلس حكام جهاز الاحتياط الاتحادي، و٦ تنتخبهم المصارف الخاصة الاعضاء في مصارف الاحتياط على أن يكون نصفهم من مساهميها أو العاملين فيها والنصف الآخر ممن يمارسون أعمالا صناعية وزراعية وتجارية. وإذا قيل ان إشراك القطاع الخاص بإدارة المجلس المركزي قد ينتج عنه تأثر مصرف لبنان بالمصالح الخاصة، فالجواب انه بالإمكان إيجاد تنظيم يكفل أبعاد هذه المصالح من جهة، ويركز من جهة ثانية، السياسة النقدية على معرفة حية بالواقع الاقتصادي ومتطلباته. علماً ان الترابط الى حد بعيد في شخص حاكم مصرف لبنان بين صلاحية رسم السياسة النقدية وإدارة وتسيير أعمال المصرف وعملياته التي تصل أحيانا الى العمليات اليومية، يتناقض مع الشرط الأول للإدارة الصحيحة في فصل الجهاز الذي يرسم السياسة عن الجهاز الذي ينفذ ويسير العمليات. وان وقت الحاكم هو أثمن من أن يضيع في إدارة الأعمال اليومية، فعليه من مهمات الدراسة والاستشارة وتقرير الأمور المهمة ما يفرض ابعاده عن التدخل بالتفاصيل التي إذا انغمس فيها المسؤول ضاع في بحرها وفقد أثر الطريق التي تفرض عليه مسؤولية اتباعها لتحقيق المهام الكبرى والأساسية المكلف بها بموجب قانون النقد والتسليف.
سادسا: واستطرادا، هل ان ارتباط جهاز السلطة النقدية بوزير المالية – ولو بصورة غير مباشرة، أو بتوجيه الدولة عن طريق مدير المالية العام ومدير الاقتصاد العام – أمر يتناسب مع ما يفرضه واجب رسم السياسة النقدية من حرية عمل وعدم مبالاة بالمصالح والتيارات السياسية؟ ان أفضل جواب على ذلك هو الخلاف الذي وقع في أميركا أخيرا بين مجلس حكام جهاز الاحتياط الاتحادي والرئيس جونسون الذي عارض، بناء على أغراض حزبية انتخابية، إجراءات المجلس الرامية الى منع التضخم. والخلاف الذي حصل في سوريا بين وزير الاقتصاد المركزي للجمهورية العربية المتحدة، وحاكم مصرف سوريا المركزي الدكتور عزة الطرابلسي. الى الكثير من الحالات التي عبأت خلالها المداخلات السياسية والطائفية والعائلية والطبقية والحزبية والانانية العديد من المراكز الرئيسية في أجهزة مصرف لبنان بأشخاص ينقصهم بعد النظر ليسوا على مستوى تحمل المسؤوليات واتخاذ القرارات والتخطيط للمستقبل، أي كما يقال: سواقون لا قادة DRIVERS & NOT LEADERS.
سابعا: ان الجزء الأكبر من التسليف المصرفي للقطاعات الاقتصادية في لبنان يومها (عام ١٩٦٥) يذهب بنسبة 51,47% للتجارة مقابل 5,58% للزراعة و13,23% للصناعة التي لا تعطى لها في الواقع سلفا صناعية وإنما بصورة عامة سلفا تجارية قصيرة الأجل، وليس في البلاد مصارف متخصصة تساعد القطاع الزراعي أو القطاع الصناعي، ومده بالقروض الطويلة الأجل. ومن المستغرب عدم قيام السلطة اللبنانية بأي اجراء لهذا الموضوع الخطير المتعلق بالاقتصاد الاستراتيجي والأمن الغذائي.
ويختم واضع «ورقة العمل» بالقول: عندما تباحثت مع أحد كبار المستشاريين الاقتصاديين الدوليين خلال لقائي به في نيويورك حول مدى خطورة الوضع وإمكانية الخروج منه الى وضع أفضل، كان جوابه لي: أود أن أسألك أولا: «هل لديكم حكومة؟!».