البروفيسور جاسم عجاقة-الديار
من المعروف في الديموقراطيات، أن الحكومات تتشكّل على أساس برنامج كامل يحتلّ فيه الشق الاقتصادي حصّة الأسد. وبالتالي تأخذ هذه الحكومات ثقة المجلس النيابي بناءً على برنامج (البيان الوزاري) الذي يكون خارطة عمل الحكومة ويتمّ مُحاسبتها بناء عليه وعلى طرق التطبيق المتبعة.
البرنامج الحكومي، في العالم المتحضر، يفرض رؤية وإستراتيجية معقولة تتمّ ترجمتهما إلى خطوات عملية على أرض الواقع من خلال مشاريع قوانين تقوم الحكومة بتقديمها إلى المجلس النيابي لإقرارها. ولعل أهمّ قانون على هذا الصعيد هو قانون الموازنة العامّة السنوي الذي يُجسّد الإدارة المالية للدوّلة والخطّة الإقتصادية للبلد بما فيه مصلحة المواطن الذي وبحسب فلسفة الديموقراطيات، يأتي على رأس أولويات العمل السياسي، إذ المواطن عماد الوطن وعلّة وجوده.
أرست الدراسات العملية والممارسات التطبيقية النظّرة الأساسية لعمل الحكومات، حيث ترتكز هذه النظّرة على إكفاء حاجات المواطن بحسب ما أرساه هرم أبراهام ماسلو الذي صنّف حاجات الإنسان على شكل هرم من خمسة طوابق تبدأ فيه الأولية من الأسفل إلى الأعلى: الإحتياجات الفزيولوجية، إحتياجات الأمان، الإحتياجات الاجتماعية، الحاجة للتقدير، وتحقيق الذات. كل ما يطال الإنسان في حياته موجود في هذا الهرم وبالتالي يُقاس مدى نجاح السياسات الحكومية بحسب وضع المُجتمع في هذا الهرم.
اليوم المُجتمع اللبناني موجود في أسفل الهرم، إذ تُظهر البيانات على الأرض أن المواطن اللبناني أصبح عاجزًا عن تأمين أبسط الأمور التي يحتاجها للعيش الكريم (!!!) ولهذا الأمر سبب رئيسي ألا وهو فشل السياسات الحكومية في لبنان على مدى عقود.
لبنان ما قبل الحرب الأهلية كان مُزدهرًا ومُنتجًا، فقد بلغت نسبة الصادرات إلى الإستيراد 67% لتنخفض إلى 15% بعد الحرب الأهلية حتى نهاية العام 2019. وهذا يعني أنه قبل الحرب الأهلية كان اللبناني يُصدّر بـ 67 دولار أميركيا لكل 100 دولار إستيراد حيث كان الفارق يُعوّض بالتدفقات المالية التي كانت تأتي إلى لبنان مع قطاع مصرفي وسياحة مزدهرة.
عمليًا بعد الحرب الأهلية التي دمّرت نصف الماكينة الإقتصادية (الناتج المحّلي الإجمالي إنخفض إلى النصف بعد الحرب نسبة إلى ما كان قبلها)، كان من الطبيعي أن تنخفض الصادرات وترتفع الواردات (أي الاستيراد) بحكم أن هناك عجزاً عن سدّ حاجة السوق الداخلي. المُشكلة التي ظهرت لاحقًا تمثّلت في أن شبح الحرب الأهلية لم يغب عن المشهد السياسي وبالتحديد الحكومي حيث تمّ خلق مبدأ الديموقراطية التوافقية والتي قضت بدون أدنى شك على أي
أمل بوضع سياسات إقتصادية مسؤولة شفافة تصبّ في مصلحة المواطن اللبناني.
كل الحكومات التي توالت على الحكم منذ الطائف وحتى اليوم، لم يتمّ مُحاسبتها على بيانها الوزاري. وبالتالي أصبح البيان الوزاري هو خطاب يُلقيه رئيس الحكومة في جلسة الثقة ويأخذ الثقة من دون أن يكون هناك أي مُحاسبة من قبل المجلس النيابي للحكومة نظرًا إلى أن قرارات الحكومات المُتعاقبة كانت تُؤخذّ على أساس توافق بين المكونات السياسية في الحكومة والتي هي صورة مُصغّرة عن القوى السياسية في المجلس النيابي، مما يستحيل معه تطبيق مبدأ فصل السلطات الذي يعتبر أساس النجاح المؤسساتي والحوكمة الرشيدة والعمل التنظيمي.
الأعوام التي شهد فيها لبنان نموًا مُرتفعًا تراوح بين الـ 7% والـ 10%، كان سببه بالدرجة الأولى تدفقات الأموال من الخارج وإزدهار قطاع الخدمات وبالتحديد التجارة والعقارات والمصارف. من جهة القطاعين الأوّلي والثانوي، تراجعت مُساهمة هذه القطاعات في نموّ الناتج المحلّي الإجمالي لصالح التجارة التي كانت الأرباح فيها خيالية.
فقد كان الإزدهار في قطاع الخدمات على حساب القطاعين الأوّلي والثانوي، مع العلم أن كلّ وظيفة في القطاع الصناعي مثلا، تخلق ما بين 3 إلى 5 وظائف في القطاعات الأخرى. ومن جهة أخرى تمّ الاستغناء عن الزراعة في العديد من المناطق نظرًا إلى توجّه العمّال إلى قطاع الخدمات والتي كانت فيها المداخيل أكبر وأقلّ عرضة للمنافسة الخارجية خصوصًا مع معاهدة التيسير العربي ومُعاهدة التبادل الحرّ مع الإتحاد الأوروبي.
وأما الفساد في خضم الأرباح الخيالية، فقد لعب دورًا محوريًا في تركيب هيكلية إقتصادية ظرفية – إن لم تكن وهمية – وأقلّ ما يُقال عنها في النظرة الاقتصادية المستقبلية: «هدّامة»؛ إذ جعلت المواطن اللبناني يتعلّق بالخارج في كل إحتياجاته اليومية. فبدل أن يكون هناك سياسات إقتصادية توجّه الإستثمارات نحو القطاعين الأولي والثانوي، كان التُجّار يحصدون حصّة الأسد مع غطاء من قبل أصحاب النفوذ. عمليًا الإستيراد الذي كان يُغطّي أكثر من 85% من الإستهلاك المحلّي، كان محصورًا بـ 80 شركة تتمتّع بحماية قانونية من خلال قوانين أعطتهم حصرية الإستيراد وحرمت المُستثمرين في القطاعين الأولي والثانوي من أبسط الحمايات القانونية (المنافسة الخارجية) أو الحماية المالية (ضرائب وقروض مدعومة من خزينة الدولة).
عملية تثبيت سعر صرف الليرة التي هي حق كل مواطن لبناني نظرًا لأهميّتها في الأمن الاجتماعي خصوصًا في الأنظمة التي لا ثبات سياسي وأمني فيها، حوّلها الفساد لخدمة الإستيراد الذي إستهلك أكثر من 300 مليار دولار أميركي منذ العام 2001 وحتى نهاية العام 2020 (أرقام المركزي العالمي للتجارة) مقابل 60 مليار دولار أميركي تصدير! – أي خمسة أضعاف (!)
من هنا يُمكن القول إن السياسات الحكومية كبّدت المواطن اللبناني خسائر بقيمة 240 مليار دولار أميركي كانت لتُحوّل لبنان إلى ماكينة إقتصادية بناتج محلّي يفوق الـ 200 مليار دولار أميركي لو تمّ أخذ القرارات المُناسبة آنذاك. لكن وخلافًا لما نصّ عليه أفلاطون في جمّهوريته الفاضلة بأن النخبة التي تحكم تُدير مصلحة عامة الشعب، أصبح المواطن اللبناني مُعلّقًا بالإستيراد بكل ما يستهلكه وبالأحرى أصبح مُعلّقًا بالدولار الأميركي الذي وعند أول مواجهة سياسية مع المُجتمع الدوّلي، فُقد من السوق وتزعزع الثبات النقدي وأصبح لبنان رهينة سوق سوداء تُديرها عصابات محميّة من نفس المجموعة.
من خلال نظرة علمية تحليليّة، يمكن القول إن الإنهيار الفعلي بدأ في العام 2015، وإستحكم أكثر في العام 2017 مع إقرار سلسلة رتب ورواتب أقلّ ما يُقال عنها أنها كانت أكبر كذبة في التاريخ اللبناني. هذه السلسلة جاءت لتدّك الهياكل المالية للدوّلة اللبنانية ومعها القطاع المصرفي المُنغمس في ديون الدولة. والضربة القاضية أتّت مع وقف دفع سندات اليوروبوندز التي قطعت عن لبنان آخر مصدر للدولارات وبالتالي ضربت الليرة اللبنانية ومعها الإستيراد الذي يتعلّق به المواطن بشكل مُريب!
الأصعب في الأمر هي سلسلة الإجراءات التي أخذتها حكومة الرئيس حسان دياب والتي تصر إلى الآن على اتباعها مع تأكد فشلها وتحقق نتائجها السلبية الكارثية على الواقع اللبناني، فمثلاً بدلاً من أن تقوم بخطوات لدعم الماكينة الإقتصادية، توجّهت نحو حلول مالية خاطئة منها وقف دفع سندات اليوروبوندز، وإلزام مصرف لبنان توزيع 200 دولار لكل مواطن، إضافة إلى بدعة البطاقة التموينية التي تُحاول فرضها وبالعملة الأجنبية، مما سينتج آخر المطاف – إذا ما تم تطبيقها – ديوناً إضافية على دولة في عملة أجنبية هي في الأصل عاجزة عن أداء ما قد استقر إلى الآن في ذمتها، مما يعني التحضير لمزيد من التضخم والعجز.
الـ»Social Dumping» الذي نتجّ عن سياسات الحكومات مردّه إلى ضعف النظر، والمصالح الضيّقة وغياب العلم عن عمل الحكومات. وهذا المواطن الذي كان قبل عامين يعيش بدخل سنوي يُقارب الـ 14 ألف دولار أميركي سنويًا كمعدّل عام (أي ما يُقارب الـ 40 دولارًا في اليوم)، أصبح اليوم يعيش مع أقلّ من 4000 دولار أميركي سنويًا كمعدّل عام (أي أقل من 11 دولار في النهار). بالطبع هذه الأرقام هي معدّل عام فالمعروف أن أكثر من ربع الشعب اللبناني أصبح يعيش بأقل من 1.9 دولار أميركي في النهار (الفقر المُدّقع) وأكثر من 55% يعيش بأقل من 3.4 دولار في النهار (الفقر العام).
الخروج من الأزمة لا يُمكن أن يتمّ إلا بإجراءات تطال الماكينة الإقتصادية وبالتحديد القطاعين الأولي والثانوي. لا يُعقل أن لبنان كان قبل الأزمة يستورد أبقارا حيّة ولحوم أبقار بقيمة 540 مليون دولار أميركي! لا يُعقل أن الصناعات الغذائية الموجودة في لبنان تعتمد على إستيراد المنتجات الزراعية لبلدان أخرى (مثلا الحمّص والذرة)! لا يُعقل أن لبنان يستورد عبوات المياه البلاستيكية من الصين وهو قادر على إعادة تدوير البلاستيك الموجود في لبنان من خلال مصانع محلّية يُمكن إنشاؤها! لا يُعقل أن لبنان يدعم إستيراد القمح وهو كان في الماضي مركز إهراءات أوروبا! لا يُعقل… لا يُعقل… فأين لبنان اليوم من لبنان الأمس؟
لقد حوّلت السياسات الحكومية المُتتالية المواطن اللبناني من مواطن مُنتج يعمل في الصناعة والزراعة إلى مواطن يحتاج إلى بطاقة تموينية تُموّل من ديون من البنك الدولي، لكي يأكل ويشرب! هذه السياسات الخاطئة كلها حوّلت المواطن الذي يبرع في الخارج إلى مواطن «متسوّل» في بلده! وهذا الأمر سيزداد سوءاً مع تفاقم الأزمة السياسية وإنهيار كل القطاعات الحيوية للمواطن اللبناني.
قولنا الاستدانة المنتجة مبني على أصل استعمال المديونية؛ فالمديونية عامل مساعد في نهضة الاقتصاد إذا ما تم استعمالها على النحو القويم لا خبط عشواء بلا تخطيط أو حد مرسوم سواء على صعيد الفرد أم المؤسسة أم الدول. وهي في أصل استعمالها وضمن إطار العلمية الإقتصادية وسيلة مهمة ومحفز للنهوض ولذا عرفت في العلوم المالية بالرافعة (Leverage). إلا أنه عندما يستعمل الأمر في غير ما وضع له تنعكس النتائج وتظهر المشاكل، ومن أمثلة ذلك أن تتخذ المديونية لتغطية المديونية مما يؤدي إلى تسلسلها وخلق ما يعرف بـ (Ponzi Scheme) أو ما يُعرف بـ «لحس المبرد» عند العوام، وهذا ما يمكن توصيفه في حالة تغطية عجز موازنات الحكومات المتعاقبة. وعليه، فكل مشروع إستدانة لتغطية نفقات غير منتجة يرسخ دعائم هذه المعضلة ويجعل الخروج منها أصعب فأصعب.
لماذا لا يُحرّك المواطن ساكنًا؟ العديد من المراقبين يُعطون تفسيرًا من باب الفلسفة أو علم الإجتماع (متلازمة ستوكهولم، الإنقسام الطائفي…)، ولعلّ قول كارل ماركس هو الأكثر إنطابقًا على حالة لبنان: «الفقر لا يصنع ثورة، وإنما وعي الفقر هو الذي يصنع الثورة».