“ليبانون ديبايت” – عبدالله قمح
لم تكن السفيرة الأميركية دوروثي شيا، الوحيدة الساعية لاستمالة الجيش، هناك “شيا” وأكثر يسبحون في المحيط ويقاسمونها نفس الخلفية وذات المساعي والطموح لأداء الدور نفسه، ولعلّهم سيكثرون ويزدادون في مقبل الأيام، كلّما تعمّقت الأزمة وتمادت سياسة “تجويع العسكر”، التي بدأت بالأواني الفارغة من مشتقات اللحوم والأسماك، وتتسلّل الآن إلى المعاشات والجيوب الخاوية!
هناك من يعتقد أن “تجويع العسكر” سياسة متعمّدة ومقصودة لدفعه صوب الإرتماء بأحضان غير لبنانية، وهذا التحليل ومنبعه واقعي، مُباح طالما أن الوضعية الراهنة توفّر عوامل مشجّعة تقود للوصول إلى هذا الإستنتاج.
لـ”شيا” وأخواتها مصلحة “مزمنة” في الإستثمار بالعسكر، وهذا صحيح وواضح، لكن ذلك لا يعني أن العسكر موافق، بصرف النظر عن التمايل معها أو بجوارها على الطاولات وأمام عدسات وسائل الإعلام في بعض الأحيان.
تُدرك القيادة العسكرية مآلات بعض السفراء ودولهم من خلفهم ودوافعها، المُضمر منها والمكشوف، لكن هل يعلم أفراد الطبقة المنهارة المتسبّبة بالأزمة ذلك؟ على الأرجح نعم، وهنا مربض الفرس، لذا لا جدال في أن تلك الطبقة، وشخصياتها وأفرادها وأحزابها والمنتسبين إليها، هي المسؤولة عن رمي المؤسسة العسكرية في غابة تملؤها الوحوش، ثم المراهنة على نفاذها بجلدها لاحقاً!
وللحقيقة، تطمح واشنطن إلى ما هو أكبر من توفير دعم بات ملحّاً للمؤسسة العسكرية، وعلى الأعمّ الأغلب تجد الظرف الراهن مؤات، لذلك نرى ارتفاعاً لرقعة الإستثمار التوسّعي في اليرزة والذي يُعمل على ضبط اندفاعته قدر الإمكان، في البداية من خلال زيادة الدعم المادي، وثانياً من خلال تعمّد إبراز وتسويق “المبادرات الأميركية”، والتركيز على جني ردّات الفعل عليها، سيما من جانب المحور الذي تتقصّد واشنطن من خلال دعم الجيش، استفزازه!
وللحقيقة أيضاً، فإن أكثر فئة تُستفزّ من الحضور الأميركي داخل اليرزة، هي بيئة المقاومة. السفيرة هنا ثم واشنطن هناك، يدركون ما يفعلون جيداً بل يناسبهم هذا التحوّل، لذاك لا يتردّدون في الاضاءة على نشاطات السفيرة إلى جانب الجيش مهم كان حجمها، من جهة أخرى يعمدون زيادة الإستثمار في خلق الشقاق بين البيئتين وإظهار أن الجيش اللبناني “أميركي الهوى”، وهذا يدرّ مكاسب أميركية صرف. وتعتقد واشنطن أنه، وفي ظل الازمة الحالية، فقد بات الوصول إلى حالة انعدام الثقة بين الجانبين مسألة وقت لا أكثر.
وانعدام الثقة، في حال الوصول إليها، مقدّمة إلى ما هو أكبر وأخطر من ذلك بكثير. في واشنطن يُراهنون على تحوّل الجيش إلى نقيض للمقاومة وسلاحها ما يجعل المواجهة بينهما حتميّة، وهذا يأتي أولاً وأخيراً في مصلحة إسرائيل، التي ستجلس مرتاحةً، تتفرّج من دون ذرف أي نقطة دم! لكن في لبنان وفي داخل المؤسسة العسكرية تحديداً، لا مكان لهذا الكلام. صحيح أن البعض يعتقد أن ضمان كامل المؤسسة العسكرية على صعيد الولاء للمقاومة أمر فيه مبالغة، لكن الصحيح أيضاً أن تحويل كامل المؤسسة العسكرية إلى نقيض عسكري للمقاومة لهو أمر مبالغ فيه أيضاً!
لقد أُسّس الجيش منذ فترة ما بعد الحرب على قاعدة واضحة: إسرائيل عدو، وهذا إنما يتقاطع مع عقيدة المقاومة القتالية ويتماهى معها، ما يعني أن الجيش والمقاومة يلتقيان عند نفس النقطة ويترابطان بأواصر متينة مشتركة، ولذلك، تسعى واشنطن إلى إجراء تعديل على هذه الصورة النمطية وبطرق متعدّدة. هناك من يعتقد، أنه في حال أقرّت واشنطن بصعوبة تحقيق مرادها، فقد تلجأ إلى تفعيل سيناريوهات سابقة اعتُمدت بحق جيوش أميركا اللاتينية، أي خلق حالة معارضة داخل الجيش، لكن ذلك وحتى الآن لهو أمر مُحال، لأسباب عدة تبدأ بتركيبة الجيش ومن خلفه البلاد، وللوضعية الداخلية الحالية غير الجانحة صوب الفوضى الكاملة بمعناها العسكري والسياسي.
في المقابل، تتعمّد واشنطن استفزاز الجيش بشكل غير مباشر، وتمهّد إلى جرّه نحو مناطق هو عملياً لا يريدها. عند كل مناسبة لتقديم دعم، تتحرّك “لوبيات” في الداخل الأميركي ساعية إلى ربط المساعدات لصالح الجيش بإطار تنفيذي واضح، يبدأ بتوفير ظروف مواجهة “حزب الله”. التسريب الذي ذاع مؤخراً حول ربط رفع قيمة المساعدات المالية إلى الجيش بتوفير ظروف هذه المواجهة، يصبّ في خانة إعلان الرغبات الأميركية أولاً، وتوسيع مساحات “الشقاق” المفترضة بين اليرزة وبيئة المقاومة ثانياً، وهنا تتموضع نقطة التركيز الأميركية.
من جهة أخرى تُحاول فرنسا بدورها بلوغ المسار الأميركي وتأمين ظروف استثمار ما في اليرزة. فرنسا التي تعي أن مبادرتها للحل السياسي انهارت وذهبت إلى غير رجعة، ورهانها على الطبقة الحالية غدا سراباً، تريد أن تخلق بدائل، لتعويض خسارتها وللإنتقام من أفراد طبقة أخلّوا بوعودهم، ويتمثل ذلك في بعض المجموعات الفرنكو – مسيحية المنبثقة عن حالة 17 تشرين، وبعض المهاجرين من الكتل السياسية القديمة، وعليه أقيم الزواج “غير الشرعي” بينهما، على نية مصلحية لا همّ لها سوى تبادل الخبرات بين الجانبين!
تريد فرنسا إقحام الجيش في صلب هذه التغييرات المفترضة، من البوابة الأميركية نفسها: تأمين مساعدات للجيش. اليرزة وبنتيجة الخذلان السياسي، خسرت القدرة على رفض أي مساعدة طالما أن اولويتها تأمين استمراريتها ومسلتزمات بقائها حيّة، لذلك، تبرع باريس في إستخدام كل ذلك في مجالات إيهام اليرزة بقدرتها على الدعوة إلى مؤتمر يؤمن المساعدات. لكن واقع الأمور يُظهر أن خطوة من هذا النوع، وفي حال تحققت، لن تكون مجانية، فالمطلوب من الجيش فرنسياً، أكثر من إيقافه على ِأقدامه إنما إحاطة بدلاء باريس السياسيين الساعية لإنتاجهم عبر انتخابات تدفع وتضغط من أجلها، بحماية عسكرية توفرها اليرزة. كذلك، تريد باريس إيهام الرأي العام بأنها تستثمر في الجيش ضمن مجال سياسي طبعاً، وتعتقد أن ذلك يتحقّق من خلال التركيز على قائده جوزاف عون، أحد المرشحين المحتملين للرئاسة. صحيح أن عون يقدم أولويات المؤسسة العسكرية على أي أمر آخر، لكن باريس كما الداخل، يعتقدان أن ثمة طموحاً لديه، لذلك تعمل على تعزيز هذا الطموح من جهة، واستخدام ذلك في إطار ممارسة المزيد من الاستفزاز والاستهداف بحق الطبقة السياسية.
وعلى حافة العام 2022، حيث الإستحقاقات المصيرية (بلدية نيابية ورئاسية)، يتكاثر حضور المقاولين والمستثمرين من قماشة “صيّادي الفرص”، الذين يتحرّكون عادةً صوب المناطق “مرتفعة التصعيد”، أو تلك التي تضم بؤراً للنزاع وتبعث على إشارات للفوضى والقلق، طمعاً في تحصيل الأرباح… طبعاً تجد المؤسسة العسكرية في مكان آخر. مع ذلك تصرّ فرنسا، في انطلاقتها الجديدة المختلفة لبنانياً، على تشجيع الجيش على تولّي دور ولو غير مباشر، من خلال تأمين الدعم من خلفية المشهد لصالح “البدلاء”. لا شك أن أولوية اليرزة الحالية هي تأمين حاجات أفرادها في ظل استقالة السياسيين من أدوارهم، لكن ذلك لن يأتي على ظهر الإلتزامات والضوابط والعقيدة العسكرية التي بُنيَ عليها الجيش الذي لا يتقبّل أي نوع من أنواع الإستثمارات، سواء الأهلية أو السياسية. في النتيجة، حالات الإستثمار لن تهدأ، ونسبة المناعة لدى الجيش، في تطوّر مستمر!