معن بشور-البناء
إنّ الانتصار للقدس وفلسطين بعد هذه الملحمة البطولية التي شهدناها في الهبّة الرمضانيّة التي انطلقت من الأقصى وحيّ الشيخ جرّاح، وامتدّت إلى الأراضي المحتلة عام 1948، وإلى عموم الضفة الغربية، وتوّجتها عملية “سيف القدس” التي أثبتت لنتنياهو وحكومته وللإدارة الأميركيّة وللمطبّعين والمتخاذلين من الأنظمة العربية أنّ القدس ليست لقمة سائغة، بل هي سيف بتّار يمتشقه كلّ مقاوم فلسطيني وكلّ مناضل عربي، وكلّ حرّ في هذا العالم، انتصاراً لحقوق وطنية وكرامة قومية وقيم إنسانية.
وإذا كانت المواجهات الأخيرة قد أعادت رسم قواعد الاشتباك لتربط القدس بكلّ فلسطين، فإنّ المواجهات المقبلة، إذا أراد المحتلّ الاستمرار في تدنيس المقدّسات واقتحام الأقصى وإخلاء السكان الفلسطينيين من بيوتهم في حي الشيخ جرّاح وبطن الهوى وغيرها من أحياء سلوان، ستجعل قواعد الاشتباك تشمل الأمّة كلها والإقليم بأسره.
لقد علمتنا التجارب العديدة التي مرّت بها أمتنا بصراعها الوجوديّ مع هذا الكيان الغاصب، أنّ تحصين الانتصار وتفعيله لا يقلّ أهمية عن تحقيق الانتصار، وأنّ تحصين الانتصار لا يتمّ إلا من خلال إدراك عوامل تحقيقه وتطويره.
فأول عوامل الانتصار كان في الوحدة الميدانيّة الفلسطينيّة، والوحدة السياسيّة، والوحدة الفصائليّة والتي أذهلت باتساعها وعمقها وحرارتها الأصدقاء قبل الأعداء.
من هنا، فالأمانة لما تحقق من إنجازات وانتصارات تكمن في التمسك بالوحدة الوطنية والمقاومة على قاعدة التكامل بين الرؤى والاستراتيجيات والقوى، ورفض منطق الإقصاء أو الإبعاد، ونحن على ثقة بأنّ العقل الفلسطيني ذا التجربة النضالية والسياسية العريقة قادر على إيجاد السبل والحلول لأيّ خلاف أو تباين في وجهات النظر عبر تفعيل الحوار الصادق والأمين بين كلّ القوى المعنية بالهمّ الفلسطيني.
وثاني عوامل الانتصار يكمن في أنّ الشعب الفلسطيني أدرك أهمية أن يعتمد على نفسه ومقاومته وبطولات شعبه وتضحيات أبنائه، ولا يراهن أبداً على “تسويات سياسية” يقودها الداعمون التاريخيّون للكيان الصهيوني، والذي أكّدت كافة التجارب أنّ مشاريع التسوية التي يقدّمونها لم تكن إلاّ للإيقاع بين الفلسطينيين ولتحقيق الانقسام والنزاعات بين أبناء الشعب الواحد حتى يضعف الشعب الفلسطيني ويصبح أعداؤه أقدر على التنصّل من أيّة التزامات يضطرون الى عقدها أو اتفاقات يضطرون الى توقيعها… فحذار من دفرسوار سياسي يحقق به الأعداء اختراقاً في صفوفنا شبيه بدفرسوار شهدته مصر بعد نصر تشرين الأوّل/ أكتوبر المجيد عام 1973.
وثالث عوامل الانتصار هو في هذا المدّ الشعبي العربي والإسلامي والعالمي، غير المسبوق، الذي شهدته المنطقة والعالم عبر الأيام الماضية، والذي ما كان له أن يتحقق لولا وحشية العدوان من جهة، ولولا صلابة المقاوم الفلسطيني ووحدة الشعب الفلسطيني، وهي وحدة تجلّت أول ما تجلّت بالموقف الصارم للكلّ الفلسطيني، سلطة ومعارضة، من “صفقة القرن” واعتبار القدس عاصمة للكيان الغاصب وإقرار واشنطن بالسيادة “الإسرائيلية” على الأغوار والجولان، و”اتفاقات التطبيع” التي عقدتها بعض الحكومات مع العدو الصهيوني بخلاف رأي شعوبها.
إنّ استدراج الصف الفلسطيني إلى صراعات داخلية لا يؤثر فقط على صلابة موقف الشعب الفلسطيني في الداخل والشتات، بل يؤثر أيضاً على هذا الالتفاف العربيّ والإسلاميّ والعالمي غير المسبوق، وخصوصاً أنّ المعركة ما زالت مستمرة وأنّ العدو الصهيوني ما زال يمارس عدوانيته ووحشيته ضدّ مقدساتنا وضدّ أبناء شعبنا.
أكتفي الآن بهذه العوامل الثلاثة، مع إدراكي بوجود عوامل أخرى عديدة وقفت وراء الانتصار، لكني أعتقد أنّ التركيز على إبراز هذه العناصر والعمل على تحصينها يبقى اليوم من أبرز مهامنا كنخب وشعوب، لا سيّما الشعب الفلسطيني العظيم الذي أدرك جيداً أن “ما أخذ بالقوة لا يُستردّ بغير القوة”، و”أنّ المقاومة الفلسطينية وجدت لتبقى وستبقى وتنتصر”، وكلتاهما مقولتان للزعيم الخالد الذكر والرمز الساطع للحركة القومية العربية المعاصرة جمال عبد الناصر والذي قال أيضاً: “نصادق من يصادقنا ونعادي من يعادينا”، ففلسطين كما علّمتنا الأيام “قضية من اقترب منها اعتزّ، ومن ابتعد عنها اهتزّ”.