محمد علي مقلد-نداء الوطن
حين دخل النظام السوري بجيشه إلى لبنان، كان همه المعلن حماية المسيحيين وحماية الثورة الفلسطينية، لكنه شن على المسيحيين معارك شتى أهمها معركتا الأشرفية وزحلة ونكل بقياداتهم فسجن سمير جعجع ونفى ميشال عون، كما شن حرباً على منظمة التحرير الفلسطينية استمرت حتى الاجتياح الاسرائيلي، وكانت من القسوة بحيث اختار أبو عمار المغادرة إلى تونس لا إلى دمشق.
ما كان مضمراً في خطة قوات الردع صار هدفاً لم يجهر به نظام الوصاية لكنه أدخله حيز التطبيق بمباركة عربية ودولية، فدشن وصايته بالالتفاف على اتفاق الطائف من خلال تعديله قبل إقراره، مفتتحاً الحلقة الأولى من مسلسل تدمير الدولة اللبنانية، بمساعدة أدواته في قوى الممانعة، تاركاً لها بعد مغادرته استكمال المسلسل الذي يتولى العهد اختتام حلقته الأخيرة.
اتفاق الطائف ليس الأفضل، لكن الغاية من أول تعديل لم تكن لإدخال تحسينات عليه بل لإلغائه، وذلك عبر انتهاك سيادة اللبنانيين على قرارهم، وإقناعهم بالحسنى أو بالعنف، بأن التوافق اللبناني ينبغي أن يمر إلزامياً عبر دمشق. الباكورة كانت زيادة قوام البرلمان من 108 إلى 128 نائباً. منذ تلك اللحظة لم يعد المجلس النيابي سيد نفسه، بل صارت تملى عليه القوانين ومشاريع القوانين من علٍ.
الضحية الثانية قانون الانتخاب. تم التلاعب بالمبادئ وابتدعت إجراءات. إذ صار لكل منطقة قانون واعتمد نظام الترشيحات المتبع في الأنظمة الشيوعية وأنظمة التحرر الوطني، فأعلنت ولادة اللوائح معلبة ومباركة من السلطان وعلى رأسها والٍ في كل منطقة وداخل كل طائفة، فلم يعد عضو البرلمان المنتخب ممثلاً للأمة بل ممثلاً شخصياً للوالي.
التضحية بالمبادئ هي الأكثر فتكاً. الدستور اللبناني ينص على أن النظام اللبناني نظام برلماني ديموقراطي يقوم على مبادئ الفصل بين السلطات وعلى الكفاءة وتكافؤ الفرص. صار للدولة بدل الرئيس ثلاثة رؤساء، إذ ألغيت مؤسسات رئاسة الجمهورية والمجلس النيابي ومجلس الوزراء واستبدلت ببدعة الترويكا التي صارت بديلاً عن كل المؤسسات، وصودرت صلاحياتها من قبل نظام الوصاية وأجهزته الأمنية.
أفرغت الانتخابات من مضمونها الديموقراطي لأن النتائج لم تعد تتقرر في صناديق الاقتراع بل في نعيم دخول المرشح إلى لائحة الوالي وحصوله على مباركة السلطان. هذا فضلاً عن أن دورة الانتخابات الأولى بعد الطائف أخلت مقاعد البرلمان من المشرعين وأدخلت بدائل ممن ليست لهم علاقة بالقوانين والتشريعات. حتى أن أحدهم، بعد أن صار نائباً، طلب من عامل الكهرباء أن يعطل العداد الكهربائي في منزله المبني أساساً من غير ترخيص.
ما كان ممكناً أن تدخل مثل هذه العينات إلى البرلمان لو لم تطرأ على المعايير السياسية تعديلات جذرية أفسدت كل القيم بما فيها الأخلاقية. أخطر ما فيها أن نظام الوصاية لم يكتف بالسطو على ثروات البلاد بمنطق الغزو والغنائم، بل راح يدرب أزلامه وأدواته ويعلمهم بالقدوة حتى غدا الفساد نهجاً في إدارة شؤون البلاد، تولاه التلامذة النجباء بعد غياب المعلم.
نظام الوصاية “هركل” الدولة ومؤسساتها. لم أجد كلمة بالفصحى توازي هذه العبارة العامية اللبنانية، ومفادها أنه اختار أهل السلطة اللبنانية من بين فاقدي الخبرة وفاقدي المعرفة بأهمية الدولة، ممن يتجاوزون حد السلطة ويعممون نهج الفساد والإفساد على أتباعهم، حتى بات انتهاك الدستور نهجاً تكرس من أعلى الهرم حتى آخر العاملين في أجهزة الدولة وإداراتها.
نظام الوصاية ارتكب جريمة بحق الدولة، الجريمة الأكبر هي تلك التي يرتكبها ورثته من أهل الممانعة اللبنانيين.