يُسهم الخلاف السياسي بتعميق جراح البلاد ودفع الشعب إلى مزيد من الفقر، في حين أنّ تأليف الحكومة هو الحلّ السريع والأنجع من أجل إستعادة الثقة والمباشرة بالإصلاحات.
كل من يتابع مسار المفاوضات الرامية إلى تأليف الحكومة يدرك جيداً أن لا سبب جدّياً يحول دون التأليف، ويذهب بعضهم إلى حدّ السخرية من “الإشكال” القائم بين الرئيس المكلّف سعد الحريري ورئيس “التيار الوطني الحرّ” النائب جبران باسيل.
ولا يهتم الشعب لكل تلك الخطابات والخطابات المضادة، فربطة الخبز وصفيحة البنزين والدواء المقطوع أهم بكثير من العراضات التي تحصل وكان آخرها في قاعة الأونيسكو.
وقد وصل كل الوسطاء، من الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون إلى البطريرك الماروني الكاردينال مار بشارة بطرس الراعي إلى المدير العام للأمن العام اللواء عباس إبراهيم، إلى حائط مسدود، فكل العقد كانت قابلة للحلحلة بما فيها عقدة تمسّك “الثنائي الشيعي” بوزارة المال، إلاّ عقدة الحريري وباسيل.
وفي نظرة إلى مسار الأمور، فإن التحالف القوي نشأ بين الحريري وباسيل بعد التسوية الرئاسية وانتخاب العماد ميشال عون رئيساً للجمهورية، يومها كل القوى السياسية رُميت خارجاً، فـ”القوات” التي انتخبت عون على أساس “تفاهم معراب” وسمّت الحريري باتت معزولة، وباسيل حاول تطويقها والحريري تخلّى عن حليفه القديم في 14 آذار كرمى لعينيّ باسيل.
ومن جهته، بات رئيس الحزب “التقدمي الإشتراكي” وليد جنبلاط خارج اللعبة، بينما يُقاتل الرئيس نبيه بري ليحصل على بعض من “فتات” القرار التنفيذي الذي خضع لمعادلة الحريري وباسيل، حتى “حزب الله” كان مرتاباً لكل هذا الوئام بين الرجلين، ما دفع جنبلاط مرات عدّة إلى الحديث عن أن أهم رابط بينهما هو صفقة البواخر والإتصالات.
ونتيجة هذا التحالف العميق، جيّر الحريري أصواته الإنتخابية في عدة دوائر لصالح باسيل، ووقف في بلدة راسنحاش البترونية داعياً جمهور تيار “المستقبل” إلى التصويت لـ”صديقي جبران”.
قلب مشهد 17 تشرين 2019 الصورة رأساً على عقب، وإذا كان عامِلا المال والسلطة جمعا الحريري وباسيل، فلا أحد يعلم ماذا فرّقهما. فالحريري ليس ناشطاً في الثورة لكي يصبّ جام غضبه على صديقه القديم ويُحيّد “حزب الله” وبرّي، وباسيل صاحب الشخصية “الإستفزازية” كان على أشدّ وئام مع الحريري، فهو استفزّ جنبلاط في قبرشمون وبري في الجنوب و”القوات” في بشرّي، لكنه لم يُظهر طوال سنوات التسوية أي خلاف كبير بينهما.
أراد الحريري العودة إلى السراي الحكومي، لكنه ركّز على نقطة أساسية وهي عدم التخاطب والحوار مع باسيل، فقد حاول الروسي تطرية الأجواء، واستقبلهما وفشل في جمعهما، ويكرّر ماكرون محاولاته لجمعهما وتأمين ولادة حكومية ويفشل، ولم تُفلح كل محاولات إبراهيم، ولم يستطع البطريرك أن يمون على أحدهما لتقديم تنازل معيّن.
لا شكّ أن مسألة التأليف ليست مرتبطة فقط بصراع الحريري – باسيل، لكنها تشكّل عقبة داخلية أساسية في حال تمّ حلّ العقد الخارجية، في حين يرى من يتابع الشأن الحكومي أن الحريري وباسيل يلعبان في الوقت الضائع، فالرجلان يعلمان جيداً أنه لا وجود لضوء أخضر إقليمي مسهّل للتأليف وهما أكثر مَن فَقَدَ شعبية بعد الثورة، لذلك فإن توتير الأجواء يشدّ العصب حتماً.
ويحاول باسيل اللعب على الوتر الطائفي لشدّ عصب جماعته والقول إنه يستردّ حقوق المسيحيين، ويلاقيه الحريري في هذه النقطة ليقول إنه يدافع عن مقام رئاسة الحكومة السنّي. من هنا، يعمل الرجلان من أجل خدمة بعضهما بعضاً، بينما تغرق البلاد أكثر فأكثر بالفقر والأزمات المتلاحقة.
ربما تكون “لعبة” شد العصبية مفيدة في الوقت العادي، لكن في هذا الظرف الإستثنائي فإن باسيل المرتاب من تمدّد “القوات” وفشل سياساته، والحريري الخائف من نشاط شقيقه بهاء، لن تنفع معهما كل تلك الخطابات الرنانة لأن الشارع تخطّى السلطة، وظهر ذلك جلياً من خلال إعتراض أهالي كسروان والأشرفية على إستفزازات الأسد ومواجهتها وتحرّك طرابلس لمناصرة إخوتهم في كل المناطق بلا قرار سياسي.