الأخبار- يحيى دبوق
فهْم هذه البنية يسهّل فهْم المواقف، سواءً جاءت متوافقة أو متباينة، وكذلك الأسباب التي تقف خلفها، ومردّ الاختلف الذي يَظهر أحياناً من دون أن يؤثر على جوهر العلاقة وثباتها.
ثمّة مجموعة ثوابت في العلاقات الأميركية – الإسرائيلية، أوّلها وأهمّها أن إسرائيل تحتاج إلى الولايات المتحدة حاجة وجود، أي أن علاقتها بأميركا متّصلة مباشرة بوجودها وبقائها واستقرارها وأمنها وتفوّقها العسكري ومناعتها السياسية وحضورها الإقليمي والدولي واقتصادها، فضلاً عن قدرتها على تحمّل التهديدات ومواجهتها، وقدرتها على الإيذاء. باختصار: لولا الرعاية الأميركية، لما كانت إسرائيل موجودة الآن. يستتبع ذلك ضرورة أن تكون إسرائيل منقادة إلى قرارات الولايات المتحدة وتوجّهاتها، وألّا تجرؤ على تبنّي خيارات يمكن أن تضرّ بالمصالح الأميركية. إلا أنه في المقابل، وهذا ما يعيب نقصُه بعضَ القراءات، ثمّة هامش معيّن تمتلكه إسرائيل لبلورة قرارات ما، وتنفيذها أيضاً، بما قد لا يتساوق بالكامل مع المصالح الأميركية. وهو هامش يضيق ويتّسع، بحسب القضية موضع القرار، وبحسب الساحة محلّ صدوره وتنفيذه، وكذلك بحسب هوية الإدارة الأميركية وتوجّهاتها.
مع ذلك، ضمن الهامش المشار إليه، تختلف الظروف، وفقاً لفهمها إسرائيلياً، ولطبيعة القرارات التي يجب اتّخاذها فيها وكيفية تنفيذها، ما يعني أن سماح أميركا لإسرائيل باتخاذ قرارات بمعزل عنها لا يعني بالمطلق أن هذه القرارات ستُتّخذ وتُنفّذ؛ إذ تبقى القدرة والتبعات والأثمان عاملاً حاسماً وحائلاً دون بعض القرارات، سواء حصلت على إذن أميركي أم لم تحصل. بتعبير أوضح، يمكن القول إن إسرائيل تمتنع من تلقاء نفسها عن اتّخاذ قرارات تؤدي إلى إيذاء أميركا وضرب مصالحها. لكنّ الرعاية الأميركية للكيان، والتي يمكن وصفها بالرعاية الأبوية للأبناء، تسمح لتل أبيب بتجاوزٍ ما، على اعتبار أن الأب في نهاية المطاف لن يتخلّى عن أبنائه. وتلك استثناءات محدودة جدّاً، في حال رأت إسرائيل أن القرار العدائي ملحّ وضروري إلى حدّ كبير جداً، وإن مع الإدراك المسبق أن الجانب الأميركي لا يوافق عليه.
لإسرائيل أيضاً، أن تستعين، في حال وقوع الاختلاف، بالتيارات والقوى واللوبيات الموالية لها في الداخل الأميركي، للضغط على صاحب القرار في واشنطن، علماً أن من بين تلك التيارات ما يضع المصلحة الإسرائيلية في مرتبة متقدّمة جدّاً في سُلّم أولوياته، باعتبار أن إسرائيل تُجسّد في ذاتها، وفقاً لما تراه مناسباً لها، المصالح الأميركية في المنطقة. وتتمتّع إسرائيل، بفعل ذلك، بهامش تأثير إضافي على توجّهات الولايات المتحدة، التي تجد نفسها، في المقابل، مضطرّة لمراعاة موقف القوى الموالية للدولة العبرية، لكنّ هذه المراعاة تختلف من إدارة إلى أخرى، بحسب حجم قوّتها وهامش تحرّكها الداخلي، حيث الضغوط متشعّبة ومتداخلة ومنها ما هو متعارض، وعليه فمن الطبيعي أن تختلف الاستجابة لها وفقاً لهوية الإدارة. وهذا ما يجعل عامل «اللوبيّات» متغيّراً وسيّالاً جدّاً، وغير قابل للتنبّؤ بما ينتج منه، ليس بالنسبة إلى المراقبين فحسب، بل وأيضاً بالنسبة إلى منظومة القرار في تل أبيب وفي واشنطن، على السواء.
هذه هي الوجهة العامة للعلاقة بين الجانبين، لكن ماذا في حال وجدت إسرائيل نفسها مضطرة إلى اتّخاذ قرارات لا تحوز الرضى الأميركي، في سياق «تحقيق أمنها»؟
هنا، يُتوقّع إبداء الولايات المتحدة تفهّمها لقرارات «حليفتها» – وإن مع شكل من أشكال المعارضة – على اعتبار أنها تتّصل بـ»الأمن القومي» لإسرائيل. لكن حتى توقُّع هذا التفهّم لا يعني بالضرورة اتّخاذ إسرائيل قراراً مخالفاً للإرادة الأميركية؛ إذ تبقى توجّهات تل أبيب، ولو في مجال «الأمن القومي»، مسقوفة. في الواقع، لم تشنّ إسرائيل، طوال تاريخها منذ أن باتت أميركا الراعي المباشر لها، حرباً من دون رضى الولايات المتحدة. ربّما شهدت بعض العمليات خلافاً في الفترة التي سبقت مباشرتها ميدانياً، في ظلّ شيء من التردّد الأميركي ربطاً باختلاف قراءة الجانبين لتداعياتها، لكن في نهاية المطاف، لم تشنّ إسرائيل أيّ حرب أو عملية عسكرية بلا ضوء أخضر أميركي. في الوقت نفسه، من الخطأ المبالغة بالقول إن اسرائيل مضطرة، في أيّ قرار صَغُر أو كَبُر، لنيل موافقة أميركية مسبقة، إذ ثَبُت أن جملة قرارات إسرائيلية، صغيرة نسبياً ولا تضرّ بالمصالح الأميركية، اتُّخذت ونُفّذت، فيما قرارات كبرى كادت تُتّخذ، ولم يتمّ ذلك لعدم الرضى الأميركي. والتقدير غير الحاسم، هنا، هو أنه لولا تدخُّل واشنطن لإفهام تل أبيب خطورة ما ستُقدم عليه، لكانت فعلته. على أيّ حال، يصعب إيجاد قرارات كهذه اتّخذتها إسرائيل فعلاً، وكان من شأنها أن تضرّ الأميركيين، أو كان ثمّة خلاف حولها معلَن أو غير معلَن.
نموذج غزة
آخر الأمثلة الحيّة على ما بين واشنطن وتل أبيب قدّمته الساحة الغزّية. وفقاً لما تَسرّب في الإعلام العبري، فإن إسرائيل لم تُقدِم على ردّها من دون إخطار الأميركيين، بمعنى تحصيل موافقتهم، علماً أن الردّ كان من شأنه أن يتسبّب باتّساع المواجهة مع القطاع، لكن صواريخ فصائل المقاومة استهدفت إسرائيل بشكل غير مسبوق و»استفزازي»، وفي القدس المحتلة نفسها. تحدّث الإعلام العبري، ومعه الكثير من إعلام الخارج، عن تباين في الموقف بين إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن، وصاحب القرار في تل أبيب، إزاء المواجهة الأخيرة، وهو ما أدّى، وفقاً لهذا الحديث المغلوط، إلى ضغط أميركي كبير على إسرائيل، دفَعها إلى التراجع ووقف إطلاق النار. في الواقع، كان الجانب الأميركي، في بداية المواجهة، وفي مسارها اللاحق، موافقاً على الردّ الإسرائيلي، بل طلب التمهّل في طلب وقف إطلاق النار، ومن ثمّ عرقل اتجاهات دولية أرادت العمل على ذلك.
باختصار، أُعطيت تل أبيب كلّ الوقت الذي أرادته لتحقيق أهدافها، ولم يأتِ طلب التهدئة من قِبَل إدارة بايدن، بحسب المواقف والتصريحات والتسريبات، إلا بعد أن وصلت إلى البيت الأبيض تقديرات الجهات المختصّة للوضع الميداني، والمبنيّة على معلومات من الجيش الإسرائيلي نفسه، بأن إسرائيل حقّقت ما يمكنها تحقيقه عبر العملية العسكرية ضدّ غزة، وأن إطالة أمد المعركة لا يزيد من فوائدها، بل يؤدي إلى إلحاق أضرار بإسرائيل. هنا، تدخّلت واشنطن، وأعانت تل أبيب على النزول عن شجرة طويلة جدّاً تسلّقتها في بداية المواجهة. المعنى أن الأميركي ضغط بعد أن استنفد الإسرائيلي خياره العسكري المتاح له، وفقاً لظروفه وإمكاناته في مواجهة غزة. هذا هو السبب الأوّل الذي يفسّر التدخل الأميركي، أمّا السبب الثاني فهو منْع صاحب القرار في تل أبيب من إكمال المعركة لحسابات داخلية وشخصية لديه، ما قد يهدّد بتدحرج المواجهة إلى خارج الساحة الفلسطينية، ويؤدي بالتالي إلى التشويش على توجّهات أميركية إقليمية قائمة على خفض التصعيد. ومن هنا، لم يكن أمام إسرائيل إلا الانصياع للضغط الأميركي بلا تردّد.
ما يجدر التنبيه إليه، أخيراً، هو أن ما قيل عن أن مشاهد الدمار وقتل الأطفال والنساء والشيوخ واستهداف وسائل الإعلام حرّكت الضغط الأميركي على إسرائيل، مجرّد إخراج شكلي لتجميل الموقف الأميركي بمفعول رجعي، على اعتبار أن واشنطن شريكة في قتل الفلسطينيين وتدمير دورهم السكنية وبنيتهم التحتية، مثلها مثل تل أبيب، إن لم تكن أكثر.