رضا صوايا – الاخبار
هرب المودعون من تحت «دلفة» المصارف الى تحت «مزراب» المطوّرين العقاريين. كثر اعتقدوا أن شراء العقارات يعوّض أموالهم المحجوزة، فاشتروا شققاً بأضعاف قيمتها الفعلية، فيما «القاعدة العقارية» الطبيعية تفيد بأن سعر شقة بمساحة 140 متراً يجب ألا يزيد على 20 ألف دولار
كثر اعتبروا أن تملّك عقار، مهما كان ثمنه منفوخاً، يبقى أهون الشرين، وأفضل من وديعة غير ملموسة، ولا وجود لها إلا في السجلات الدفترية للمصارف. وهذا ما تثبته أرقام المديرية العامة للشؤون العقاريّة التي كشفت أن عدد عمليات بيع العقارات وشرائها بلغ العام الماضي نحو 82 ألفاً، تقدر قيمتها بحوالى 14.4 مليار دولار، أي بارتفاع بنسبة 110% من حيث القيمة مقارنةً بعام 2019 (جزء قليل من عمليات التسجيل، وفقاً للمديرية، قد يكون عائداً إلى عقود بيع تمّت في سنوات سابقة وسُجّلت في عام 2020، للاستفادة من انخفاض قيمة الليرة اللبنانية وخفض الرسوم).
بالتوازي، سُوِّق لفكرة «المنفعة» على كل من المودعين والمطورين العقاريين والمصارف. إلا أن ما حصل، فعلياً، هو أن المطورين استفادوا من الهجمة لسداد القروض المتوجبة عليهم للمصارف، وأن هذه الأخيرة وفّرت على نفسها عبء سداد ودائع بمليارات الدولارات (تراجعت قيمة الودائع بأكثر من 35 مليار دولار). فيما وحدهم المودعون تحملوا خسارة هائلة، عبر شرائهم عقارات بقيمة تفوق قيمتها الفعليّة بكثير.
أستاذ استراتيجيات الاستثمار في الأسواق العقارية في الجامعة اللبنانية الأميركية جهاد الحكيّم يعطي مثالاً لشرح حجم هذه الخسارة. «لنفترض أن أحدهم باع شيكاً مصرفياً قيمته 300 ألف دولار وتقاضى 70% من قيمته نقداً كما كان معمولاً به في شباط 2020، فإنه كان سيجني 210 آلاف دولار. أما في حال اشترى بالشيك عقاراً بالقيمة نفسها وباع هذا العقار اليوم بقيمة 500 ألف دولار مقابل شيك مصرفي بدل 300 ألف دولار سابقاً، فإنه لن يجني من الشيك أكثر من 125 ألف دولار وفق القيمة الفعليّة الجديدة للشيكات (كل شيك يساوي 25% فقط من قيمته)».
على أي أساس يمكن للشاري أن يقدّر ما إذا كان السعر عادلاً أم لا؟
يلفت الحكيّم إلى أنّ مصادر الطلب على العقارات في لبنان، «تتوزع تاريخياً بين طلب داخلي، وطلب الاغتراب، وطلب خليجي. الأخير توقف منذ سنوات، وقد عرض كثير من الخليجيين عقاراتهم للبيع. أما طلب المغتربين فشبه جامد (باستثناء من اشتروا عقارات عبر شيكات مصرفيّة).
يبقى الطلب الداخلي الذي يخضع لعوامل عدة تساهم جميعها في شلله. فمع غياب القروض السكنيّة وتبخر الودائع، أصبح ما تبقى من المدخول أو الراتب هو المعيار الأساسي الذي يحدد سعر الشقق». ويوضح أن «قاعدة الإقراض المتبعة عادةً في معظم دول العالم والتي تؤثر على الطلب على العقارات، تقوم على منح المقترض مبلغاً يفوق راتبه السنوي بمرتين إلى مرتين ونصف مرة. إذا أخذنا السيناريو الأكثر تفاؤلاً واعتبرنا أن معدل الرواتب في لبنان يقدر بحوالى 3.5 ملايين ليرة شهرياً (وهو رقم مبالغ فيه)، وقلّلنا من شأن معدلات البطالة المستشرية والموظفين الذين باتوا يتقاضون نصف راتب وتقلصت قدرتهم الشرائية بحكم التضخم وتدهور سعر صرف الليرة، يكون الراتب الوسطي السنوي للبناني 42 مليون ليرة. إذا ضربنا المبلغ بمرتين ونصف مرة نصل إلى 105 ملايين ليرة، وهو رقم يساوي، حسب الفرضية المتبعة، ثلاثة أرباع سعر الشقة الذي يمكن للمقترض تحمله استناداً إلى راتبه. وإذا أضفنا ربع قيمة الشقة التي يفترض أن تشكل الدفعة الأولى، أي حوالى 26 مليون ليرة، فإن سعر الشقة الذي يمكن للبناني تحمله هو 131 مليون ليرة، أي حوالى 10 آلاف دولار وفق سعر الصرف الحالي. واللافت أن هذه الأسعار مشابهة لأسعار الشقق التي تبلغ مساحتها حوالى 70 متراً مربعاً في المناطق الحيوية من كاراكاس، عاصمة فنزويلا، التي يشبّه كثيرون لبنان بها رغم وجود فوارق عدة بين وضع كلا البلدين حتى اللحظة».
ولكن، ألا يكلّف بناء شقة أكثر من 10 آلاف دولار؟
يؤكد الحكيّم أن «أسعار السلع والمنتجات لا تحدد وفق سعر الكلفة. وبالتالي يوجد حل من اثنين: إما أن ترتفع الرواتب والأجور بشكل كبير وتتقلص البطالة أو تنهار أسعار الشقق، والأقرب إلى الواقع في ضوء المعطيات الحالية هو أن أسعار الشقق ستتجه إلى هذه المستويات. وبالتالي، فإن شقة تبلغ مساحتها حوالى 140 متراً مربعاً سيصل سعرها إلى ما دون الـ 20 ألف دولار».
وماذا عن تسعير الإيجارات؟
يلفت الحكيّم إلى وجود «قاعدة متّبعة في الخارج «منع تأجير شخص إلا في حال كانت كلفة الإيجار لا تزيد على ثلث راتبه. وبالتالي فإن الراتب السنوي يساوي 40 مرة تقريباً كلفة الإيجار الشهري. في حالة الفرضية التي اعتمدناها، إذا ضربنا الراتب (3.5 ملايين ليرة شهرياً) بعدد أشهر السنة (42 مليون ليرة) وقسمنا المبلغ على 40، فإن الإيجار الشهري يجب أن يساوي حوالى مليون و50 ألف ليرة. هنا، يتبيّن أن أسعار الإيجارات المعتمدة في بيروت تحديداً قريبة إلى حد بعيد من الرقم الذي توصلنا إليه، على عكس أسعار الشقق المعروضة للبيع والتي تفوق أسعارها قيمتها الفعليّة بأشواط».
رغم ذلك، «الأزمة لا تزال في بدايتها، والقطاع العقاري سيشهد مزيداً من الجمود والانهيار، وخصوصاً أنه لم يعد بإمكان كثيرين تأمين احتياجاتهم الأساسية، وما من أحد حالياً يفكر في شراء عقار في لبنان. فالمغتربون حاقدون بعدما وُضعت اليد على مدخراتهم، وكثيرون من المقيمين يسعون إلى الهجرة ومعظم الشباب يؤجلون مشاريع الزواج. والمقلق هو أن نذهب قريباً إلى معادلة العقار مقابل الطعام، أي أن يلجأ الناس إلى بيع منازلهم وعقاراتهم لسداد كلفة طعامهم وطبابتهم وتعليم أولادهم، وهو أمر بدأنا نلمسه»