في السابق لم تكن سياسة القضم البطيء التي كان ينتهجها الكيان الإسرائيلي في تحركاته الاستيطانية تحرك الشارع الفلسطيني إلا على مستوى القرى المغتصبة من قبل المستوطنين الإسرائيليين، الذين استغلوا اعلان الإدارة الأمريكية السابقة برئاسة دونالد ترامب القدس المحتل عاصمة “لإسرائيل”.
ومع استلام جو بايدن الرئاسة الأمريكية ونتيجة للغموض الذي يلف سياسته حيال تهويد القدس ونقل مقر السفارة الأمريكية الى القدس المحتل، سارع الاحتلال إلى اخلاء محيط المسجد الأقصى وذلك بعد أن أعطت سلطات الاحتلال مهلة زمنية محددة لتنفيذ هذه السياسة.
ولتلميع صورتهم أمام الرأي العام عمومًا والغربي خصوصًا، لجأت سلطات الاحتلال إلى الغطاء القانوني وذلك من خلال إظهار المستوطنين عبر المحكمة العليا وثائق تثبت أنهم يمتلكون منازل حي الشيخ جراح الأمر الذي ساهم في البدء بتحركاتهم للاستيلاء على الحي بحجة أنهم المالكين الأصليين وأن بيوت الشيخ جراح قد تم شراؤها في السابق.
كل ما ذكر سابقًا يعد الأسباب الرئيسية لنشوب معركة سيف القدس، والتي كانت بمثابة نقطة مفصلية في تاريخ القضية الفلسطينية حيث أعادت رص الصفوف خلف “محور القدس” مثبتة معادلة جديدة اسمها “معادلة القدس” والتي أشار إليها الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصر الله في خطابه الأخير بقوله “المعادلة التي يجب أن نصل إليها هي التالية: القدس مقابل حرب إقليمية”.
عناصر المعادلة:
نشأت المعادلة الجديدة الخاصة بالقدس والتي فرضتها المقاومة في غزة وقامت على سبعة أضلاع:
– الضلع الأول: وصول المقاومة الى امتلاك الثقة بالقدرة العسكرية والأمنية المناسبة للدخول في حرب قاسية مع العدو ولفترة طويلة، والمبادرة الى نقل الاحتجاج الشعبي الى المواجهة المسلحة.
– الضلع الثاني: اختفاء وهج عملية التطبيع اعلاميًا وشعبيًا وانعدام تأثيرها على الوعي الفلسطيني، فقد أظهرت أنها فقاعة الاستهلاك الإعلامي ليس أكثر في ظل الرفض العام من مجمل الشعوب العربية والإسلامية لها وعدم القدرة الفعلية على تطبيقها الا على مستوى تبادل دبلوماسي من دون مفاعيل على الأرض.
– الضلع الثالث: الوضع الأمريكي دوليًا والصعوبات التي تواجهه بحيث اختلفت الأولويات لديه، فالملفين الصيني والإيراني أصبحا يشكلان خطرًا محدقًا على نفوذه العالمي، بحيث يفضل الاكتفاء بالتأثير عن بعد من خلال سياسة العقوبات، معتبرًا أن ممارسة ضغوط قصوى ومحاولة تقييد وإضعاف الجمهورية الإسلامية في إيران سيلقي بظلاله تلقائيًا على قدرات أعضاء محور المقاومة.
– الضلع الرابع: تأهيل الداخل الفلسطيني والضفة الغربية ونضوج الوعي بأن التعايش مع الاسرائيليين وأن اتفاقية أوسلو لن تعطي الفلسطينيين أي بارقة أمل بدولة فلسطينية على أراضي 1967.
– الضلع الخامس: الطلب الشعبي المعلن من أهالي القدس -وما يمثلونه بأنهم أهل الأرض الشرعيين أمام كل العالم وخاصة العالم الإسلامي والعربي الذي يؤيد مطالبهم ولو إعلاميًا- بتدخل غزة على خط الصراع مع الكيان ومحاولة تهجيرهم من أحيائهم لإحلال المستوطنين مكانهم.
– الضلع السادس: الدعم الشامل من قبل الجمهورية الإسلامية في ايران وحزب الله ومحور المقاومة مع الاستعداد للمساندة العسكرية في حال حصول أي تغير او تهديد للقدرات في غزة.
– الضلع السابع: التوافق بين قوى محور المقاومة بتطير المعركة مع العدو والانتقال لمستوى جديد من القتال، واستغلال أي فرصة لذلك، ومن هنا كان ما حدث في الشيخ جراح وباب العامود الفرصة التي تم استغلالها بذكاء وفرضت أجندة جديدة على العدو.
تأثيرات المعادلة:
– اخفاق قوة الردع الإسرائيلي في منع دخول حماس كلاعب أساسي في قضية القدس من الباب الواسع.
– عجز الإجراءات العملياتية والاستخباراتية عن إيقاف سقوط الصواريخ على العمق.
– ظهور الفشل النسبي للقبة الحديدة بعد أيام قتالية قليلة، والفشل شبه التام لها في حماية منطقة غلاف غزة.
– أظهرت مجددًا عدم قدرة الجبهة الداخلية على التحمل.
– طفرة في الاعلام الفردي عبر منصات التواصل الاجتماعي كعامل فاعل وداعم للقدس والقضية الفلسطينية، وصوت عال للمدافعين عن القضية الفلسطينية بشكل كبير.
– تحركات شعبية معادية لكيان الاحتلال في معظم دول العالم تطالب بكبح تغولها تجاه المدنيين.
تشكيل الوعي الإسرائيلي:
إن تحرك المستوطنين تجاه القدس المحتلة وبحماية الشرطة وقوات الاحتلال، وانتفاء أي تحرك جدي للسلطة الفلسطينية وللدول العربية التي تعلن أن القدس المحتلة من مسؤوليتها، أعطى الفرصة الذهبية للمقاومة الفلسطينية، بقيادة محمد الضيف، لأخذ المبادرة وتهديد كيان الاحتلال بوجوب التوقف عن تنفيذ مخطط الشيخ جراح الذي سيمتد إلى كامل القدس المحتلة، وبما أن المستوطنين والمتدينين خصوصًا قد اندفعوا بكامل قوتهم واحتشدوا لتنفيذ المخطط، كان في بالهم أن العملية لن تأخذ وقتًا وأن العقبات التي ستواجههم لن تكون أكثر من السابق، أي مجرد مظاهرات فلسطينية وتنديد واستنكار دولي وإقليمي وسينتهي الموضوع ويمر مرور الكرام، ويكونوا بالتالي قد ساروا بمشروع القدس عاصمة الدولة اليهودية وتهويد القدس وحققوا حلمهم التلمودي.
ولأن هذا الحلم كان قد عمم على معظم الصهاينة بأنه سيتحقق وصارت القدس في متناولهم، وقاموا بالخطوة السريعة بناءً على دراسة الواقع الفلسطيني الرسمي والتلازم مع صفقة القرن والتطبيع والدعم الخليجي، إذ بهم يصطدمون برد المقاومة الفلسطينية غير المتوقع من جانبهم ولا من جانب الحكومة الصهيونية، والمعنى أنهم كانوا يريدون تهجير من تبقى من الفلسطينيين في القدس المحتلة فإذ بالرد جاءهم من غزة ومن الضفة ومن كامل مناطق 48 العربية، فوجدوا أنفسهم في بعض مدن الداخل يتركون أحياءهم ويهربون من دون قدرة الشرطة الإسرائيلية على حمايتهم، ووجدوا أنفسهم في ما يسمى حرب داخلية وقد أطلق عليه الاعلام الإسرائيلي “حرب أهلية”، هذا على صعيد مناطق الـ 48 أما على الصعيد والحراك العسكري الذي باشرت به المقاومة الفلسطينية فقد رأوا أنهم يهربون من غلاف غزة ثم يقصفون بالصواريخ من أسدود الى تل أبيب ويدخلون الملاجئ ويتعرضون للدهس والطعن واطلاق النار في الضفة والقدس المحتلة.
يضاف إلى هذه الصورة تعطل حركة الملاحة الجوية وتهديد المرافئ البحرية ما يؤسس في وعي المستوطنين انهم قد لا يستطيعون الهرب من فلسطين في الحرب القادمة، مع عدم وجود أمان لهم حتى على المستوى الشخصي على كامل الأراضي الفلسطينية المحتلة، ففي خلفية الوعي عندهم وان ما سوق لهم أنهم يتمتعون بالحماية الكاملة بفضل جيش قوي قادر بسرعة على سحق اعداءه في أراضيهم، ومن ثم بعد تجربة حرب تموز والعمل على موضوع القبة الحديدية رسخوا في أذهان الإسرائيليين أن هذه القبة تؤمن لهم الحماية من صواريخ حزب الله وحماس ومحور المقاومة بشكل كامل وتم التسويق اعلاميًا للقبة الحديدية وتجاربها بشكل كبير وأخذت حيزًا كبيرًا في الاعلام الإسرائيلي عند كل تجربة والحديث عن نجاعتها ونسبة نجاحها في صد الصواريخ.
أما اليوم فالصهاينة يرون فشل القبة الحديدية في حمايتهم، وفشل وخوف جيشهم من ما كانوا يعتقدونه أصغر أنواع التهديد، فجيشهم غير قادر على إيقاف الصواريخ من غزة، وعند قادته خوف كبير من الدخول في معركة برية وسلاحهم الجوي درة التاج العسكري لديهم غير فاعلة الا في استهداف المدنيين والأبنية السكنية، وفي نفس الوقت يرون التحشدات الشعبية على كامل حدود فلسطين من الشمال الى الضفة الغربية فلا جيش يحميهم ولا اذا أرادوا الهرب عبر الحدود يسلمون، وهذا ما جدد الحديث فيما بينهم عن جدوى البقاء والفيديوهات التي رأيناها من بعض المستوطنين عن الرحيل من فلسطين ودعوتهم لأقربائهم بعدم القدوم.
استثمار المعادلة:
إن معادلة القدس قد يمكن توظيفها وتعميمها وتطويرها ولأن أساسها جرأة وقدرة غير مسبوقة لدى المقاومة الفلسطينية بأخذ المبادرة التي تم التأهيل النفسي والإعلامي لشرعيتها عبر الحراك الشعبي المقدسي والشعارات التي أطلقها المقدسيون وطلبوا فيها العون من غزة ومن محمد الضيف تحديدًا واستغلال الثغرات التي أصابت كيان الاحتلال وحساباته الخاطئة والمتسرعة وهي بمثابة خطوة جديدة على سُلّم الحرب مع العدو ألا وهي الانتقال من حالة الردع المتوازن الى حالة المبادرة والمباغتة، وبعد هذه الجولة سيتم استغلال هذه المعادلة لأنها كما يبدو أثرت بشكل كبير في الحسابات الإسرائيلية تجاه الاستيطان ووضع القدس المحتلة من ناحية تهويدها ونقل عاصمتها وتهجير أهل الشيخ جراح والمقدسيين لأن التجاوب الناجح من قبل حماس قد أصاب الإسرائيليين في المقتل وفي ظرف لم يكونوا يتوقعونه، لذلك عند أي محاولة جديدة للتهجير والاستيطان يحاول القيام بها الاحتلال في الضفة الغربية أو في مناطق الـ 48 كقرى البدو في النقب أو في حي من الأحياء العربية سنرى الفلسطينيين يهتفون للضيف ولغزة ويحضرون الشارع والاعلام الصديق والمعادي لتدخل المقاومة ويمهدون لها الطريق.
كلفة المعادلة:
وف حسابات كلفة هذه المعادلة من الطبيعي أن غزة ستدفع الثمن الأعلى على صعيد الكلفة البشرية أو المادية لكنها ستكون أقل في الجولات القادمة إن حصلت وبقيت محصورة في النطاق الفلسطيني ولم تتدحرج لتعم الإقليم، كما ينبغي الالتفات إلى أن كيان الاحتلال كذلك أصبح يحسب حساب التورط في أي مواجهة، نظرًا للخسائر الكبرى على مستوى الردع والهيبة وانكشاف ضيق خيارات جيش الاحتلال والاستخبارات في تسديد ضربات حاسمة، مضافًا إلى التشظي السياسي الذي يعيشه كيان الاحتلال.
سيحاول العدو التشدد في التعامل مع إطلاق الصواريخ من غزة، خصوصًا في حال كان ذلك ردًا على سلوك إسرائيلي الداخل، ليمنع تلاحم الجبهات الفلسطينية، لما يشكله من مخاطر كبيرة على أمنه الداخلي، وقدرته على إدارة المواجهة كما تبين مؤخرًا. بالمقابل سيكون من المصيري تثبيت المعادلة بالنسبة للمقاومة في هذه اللحظة المفصلية من تطور الصراع، والطفرة المفاجئة في وعي وحركة الشباب الفلسطيني.
من غير المرجح أن يفتح الاحتلال الباب امام المستوطنين ليمارسوا أنشطتهم في القدس، ومن المستبعد العودة إلى فتح ملف حي الشيخ جراح، ستؤجل هذه المعارك إلى وقت متأجر، ريثما تتضح معالم الصراع، وتتم تجربة سياسات جديدة من قبل الصهاينة والأمريكيين وحلفائهم لتعديل التوازن في البيئة الفلسطينية، التي قامت بانقلاب حقيقي هذه المرة.
قد يتم تشديد الحصار على غزة بشكل أكبر ولو تم الاتفاق على فك أو تخفيف الحصار، ورغم اعلان بايدن عن استعداده لتقديم مساعدات لقطاع غزة، فهي قد تكون مشروطة، وإن لم تكن مشروطة فسيتم تصميمها بحيث تخدم المصالح الصهيونية حصرًا من خلال تحقيق في الرأي العام داخل القطاع.
قد تطلق يد السلطة في الضفة وتدعم ماليًا أكثر، وسيتم إعطاء رئيس السلطة امتيازات اكبر ليصرفها في الداخل الفلسطيني في محاولة قطع الطريق على الالتفاف الشعبي حول حماس وفصائل المقاومة، وعلى صعيد فلسطينيو الـ 48 سيتم التضييق قانونيًا ومدنيًا على صعيد المعاملات الإدارية والقانونية بشكل عام والتعامل مع الذين شاركوا في المظاهرات على انهم إرهابيين وقد يخضعون للاعتقال الإداري، واطلاق يد المستوطنين ضدهم ومضايقتهم في الأماكن المختلفة وارهابهم، والاعتماد اكثر على رؤساء البلديات العربية والشخصيات المؤثرة ليعملوا على تهدئة الشارع عندهم باستعمال كافة الأساليب.
المصدر: مركز دراسات غرب آسيا