“ليبانون ديبايت” – عبدالله قمح
عندما حزمَ القصر الجمهوري أمره وعقد النية على بعث رسالة “مكاشفة” إلى مجلس النوّاب وإخضاعه للتحرّك حكومياً بموجب “الضرورات الداهمة”، غلبَ على العموم ظنّ، أن رئيس الحكومة المكلّف سعد الحريري سيخرج من المنازلة منتصراً، وحينها سيقوم بـ”تقريش” ما ترتّب عنها من نتائج ووضعها في سياق يخدم وجهة نظره أولاً، وثانياً ترجمتها إلى “جرعة قوّة” تفيده في إسقاط ما يشتهي على مسار التأليف، لكن وبدلاً من ذلك، أغفل الحريري كل النتائج المترتّبة، ومضى صاعداً على أول رحلة إلى الخليج بعد ساعات على تلاوة الرسالة، تاركاً كل شيء خلفه.
الآن، يُمكن القول أن “الفاول” الذي ارتكبه الحريري سيرتدّ عليه سلباً، لذا، لا بد له من الإستعداد لمواجهة “جيل جديد” من الإتهامات بعرقلة التأليف، طالما أنه لا يريد استثمار النتائج، ويُمعن في اعتماد سياسة إسداء الوعود إلى المراجع ثم التراجع عنها، كمثل ما أبلغه إلى البطريرك بشارة الراعي حول استعداده لرفع تشكيلة جديدة إلى بعبدا، ليواجه بالتالي “حملة سياسية” مختلفة، ستأخذ في الحسبان، إعتماد النتائج التي ترتبت عن “جلسة السبت النيابية” لإدعاء أن الحريري لا يسعى إلى تأليف حكومة بتاتاً.
على عكس ما كان كثر يتمنّون، زادت “رسالة العهد” و “الردّ الحريري” عليها من عقدة الفراق، وأضافت على التعقيد مزيداً من التعقيد. الآن، وعلى الرغم من المحاولات النشطة لإعادة إنعاش مسار التأليف، تبدو الأمور مقفلة، بشهادة إحالة الحريري الملف برمته على حفنة من المعاونين في الداخل تركهم كي ينوبوا عنه، بينما يتفرّغ هو لإعادة ترتيب علاقاته ومصالحه في إمارة أبو ظبي.
كان قد سبق نتيجة “المنازلة الكبرى”، تعليق “عميق” لأحد المراجع. ذلك حين اُشيع أن “القصر” قد بعث بالرسالة، وإن الحريري هوأبرز المستفيدين منها، خالف المرجع كل ما سبق وقيل، وأبدى اعتقاده أن الحريري سيكون أول الخاسرين. وقد استطرد، بأن هذا التحليل منبعه يأتي من علمه المسبق بـ “تركيبة الحريري الكيميائية”، والتي تدفعه عادةً للتفاعل السلبي مع القضايا المصيرية وبعقلية شخصية. وتبعاً لذلك، لن يقتنص الحريري الفرصة، بل سيمضي إلى زعل مضاف إلى زعله القديم، ويخسر فرصته.
إذاً تصرف الحريري كان متوقعاً، ولعله قد أوقعَ من دعمه و شدّ إزره خلال الجلسة بغضب شديد جراء تصرّفاته، وعلى الأعمّ الأغلب، رئيس مجلس النواب نبيه برّي يُعدّ من بين هؤلاء، ذلك أنه كان يمنّي النفس في أن حراكه الداعم للحريري وعلى الملأ، قبل وخلال وبعد الجلسة، والذي جرّ عليه اتهامات من أنه “أوقع” بالرئاسة و”التيار” بـ”كمين تشريعي”، سيسفر عن إستفادة، تترجم كعناصر يصلح ترجمتها في التأليف، ليكتشف لاحقاً أن الحريري تخلّى عن كل ما سبق، وولّى هارباً!
كان يجدر إذاً بالحريري أن يلتقط أنفاسه، وأن يتعامل بعقلانية و “براغماتية” مع الخلاصات المترتبة عن “منازلة الأونيسكو” لا الإنقضاض عليها، إنما كان يجدر به عدم التسرّع في تلاوة خطابه وانتظار غيره لكي يُبادر، وهو مجال أتاحه له الرئيس بري عندما جعل كلمته في ذيل الترتيب، آملاً منه أن يُجري تدقيقاً على كلمة ظهر أنها كان قد حضّرها سلفاً. لكن وبدلاً من ذلك، لم يجرِ الرئيس المكلّف أي تعديل رغم أن كلمات خصومه جاءت “أقلّه في الشكل” منخفضة التصعيد. وحده الحريري كان عالي السقف ولاقى الدعوات إلى التهدئة بالتصعيد، وقد ختم بتصرّف غير مسؤول حين توجه فور انتهاء الجلسة إلى أبو ظبي، رغم أنه أحيط علماً بضرورة الإنتظار لأن النتائج يُمكن الشروع بحصادها في مستهل الأسبوع!
في الواقع، فإن فرار الحريري المستمّر و “نسفه” لأي احتمال، ولو متدنٍ، قد يؤدي إلى تأليف الحكومة، لا ترجمة له سوى أنه ما زال ممنوعاً عن رئاسة حكومة، وبالتالي، فإن خطواته جميعها تندرج تحت خانة انتظار أي متغيّر قد يحصل، وقد لا يأتي، حسبما يبدو، تبعاً للموقف الخليجي منه.
وثمة ظنّ آخر، يفيد بأن الحريري، الذي يُدرك أن السعودية لا تُمانع تعميق خسارة عهد عون، يعمل دائماً على محاولة بيعها مواقف عبر الإيحاء الدائم بوجود قدرة لديه على تعهّد أعمال عرقلة، وإشعارها أنه يحظى بأدوار يُمكن أن تخدم وجهة نظرها، وهذا ينسحب على طريقة استخدامه لنتائج “منازلة الأونيسكو”.
في الواقع، إن الحريري يُدرك في سرّه، أن لا إمكانية للإبقاء على حالة العداء سواء مع العهد أو مع النائب جبران باسيل، وهو محكوم، في حال أراد العودة إلى الحكم سواء الآن أو لاحقاً، بالشراكة مع باسيل، تماماً كما هو محكوم بالشراكة مع الثنائي الشيعي وتحديداً “حزب الله” ومع الحزب التقدمي الإشتراكي والعكس صحيح، وذلك لطبيعة ما يمثلون طائفياً.
لكن مشكلة الحريري، أنه لا يريد لهذه الشراكة أن تأتي في هذا الظرف حيث يرصد بإتقان “فورة الغضب” الخليجية من العهد، واستحالة الوصول إلى تسوية إقليمية في المدى المنظور.
أمرٌ آخر يأسر الحريري، نابع من قرب موعد الإنتخابات. فرئيس تيار “المستقبل” الذي يُعاين بوضوح تراجع شعبيته وتياره، يراهن على ما بناه من تراكم نتائج المواجهة مع العهد لكي تكون محفزاً له لاستعادة ما خسره إنتخابياً، أي بعد عام من الآن، أو أقله المحافظ على ما لديه من دون تكبّد خسائر عميقة، وهذا طبعاً لا يستوجب إدخال أي تعديل على النص المعتمد تجاه العهد وباسيل، ولذا بات الحريري محكوم بخصومة العهد وباسيل حتى يُنجز الإنتخابات، وبعدها لكل حادث حديث.
وثمة اعتقاد راسخ، من أن الحريري كما باسيل يريدان التسوية، لكن ليس وفق مندرجات 2016. وعليه، فإن الحريري الذي يعمل على تعزيز أوراقه ويقوّيها، سيصبح مستعداً لإعادة إنتاج التسوية وفق إطار مُناسب، أي من منطلق القوي، حين يحين الموعد، أي عملياً حين يُنجز الإنتخابات النيابية، وهو ما يفسّر ابتعاد الحريري الآن عن أي احتمالات لتسوية يشتهيها النائب السابق وليد جنبلاط، لعلمه اليقين أنها ستمثل ضربة له، ولن تدفعه للعودة إلى الحكم قوياً.
أغلب الظن، أن الحريري سيُبقي على أسره للتكليف وقد يعمّق من استفادته منه، وهذا لن يحول دون منعه من تبنّي خطاب معارض في سابقة.