ميشال نوفل
لنضع اللغة الإنتصارية جانباً، وننظر بهدوء في إحتمالات الجولة المقبلة للصراع الفلسطيني – الإسرائيلي، وهي لا محالة آتية في السياقات الدينامية للزمن الفلسطيني الجديد “الواحد المتعدد”، ما دامت مكوّناته الجيوسياسية والذهنية تعصى على الإحتواء في إطار نظام الفصل والتمييز العنصري الإسرائيلي. إذا كانت المقاومة الفلسطينية الشاملة للقدس وغزّة والضفة الغربية ومناطق الـ48، قادرة على ردع العدوان الصهيوني على بيت المقدس والمسجد الأقصى ولجم الهجوم الاستيطاني اليهودي على حيّ الشيخ جرّاح في القدس الشرقية، فإنها قادرة أيضاً على إفشال سياسة إسرائيلية تعمل لتحويل النضال السياسي في قطاع غزّة إلى نضالٍ يقف عند سقف تحسين شروط الحياة في كل مرّة تتسبّب الاعتداءات الإسرائيلية الوحشية في تفاقم “أزمة إنسانية” مقيمة في ظل الحصار الإجرامي والظروف الإقتصاديّة والصحيّة والديموغرافيّة الصعبة. اليوم لا بدّ أن ينتهي النقاش المنبثق من التساؤلات: هل المبعوث القطري سيُدخل 30 مليون دولار أَم أنه لا يحمل هذا المبلغ؟ وهل التيار الكهربائي سيكون متوافراً 6 ساعات أَم 3 ساعات؟ وما هي الكمية التي يُمكن لصيّادي الأسماك أن يأتوا بها من بحرهم الملوّث بالإستفزازات الإسرائيلية؟ لقد اكتشفت المؤسسة الإسرائيلية الحاكمة عقب عملية أوسلو المتداعية (1993)، أن إصابة الجسد الفلسطيني يُمكن أن تُحوِّل المواطن الفلسطيني أداةً مُنتجة. ومثلما أن إسرائيل تُنتج مالاً بعد كل حربٍ على غزّة من طريق الترويج لأسلحة ومُعدّات عسكرية جديدة، فإنها أيضاً تكسب أموالاً من إدارة أعمال الإغاثة عبر المعابر والموانئ ودخول المساعدات العربية والدولية. وعلى هذا النحو، تجري عملية إعادة إنتاج الجسد الفلسطيني باعتباره قيمة إضافية. إنطلاقاً من فكرة مُجرم الحرب آرييل شارون أن قطاع غزّة العاصي يحتاج إلى قصِّ العُشْب كل خمس سنوات، يأتي الجيش الإسرائيلي لسحق السكان الفلسطينيين، بينما الرأسمالي الإسرائيلي يُمكنه أن يستفيد من أعمال الإغاثة في الوقت نفسه! أمّا في الضفة الغربية التي تُشرف على إدارتها المدنية سلطة للحكم الذاتي الفلسطيني المحدود، فإن الإحتلال الإسرائيلي يستفيد هنا بطريقة أخرى، وذلك من خلال ربط المجتمع الفلسطيني كلياً باقتصاده الكولونيالي وجهازه الطبّي، وعلى هذا النحو يتحكم بمفاصل الحياة الفلسطينية، الأمر الذي يجعل النظام الصحّي أحد المفاتيح الجديدة بِيَدِ إسرائيل للتحكم بمصير الشعب الفلسطيني. ولا يمنع ذلك وجود حالة مفارقة بالنسبة إلى فلسطينيّي الداخل في الأراضي المحتلة عام 1948، بالنظر إلى الوقائع التي تفيد بأنهم سجّلوا إختراقاً في حقل التخصصات الطبّية. وهناك العديد من أطباء الـ48 يعملون في المستشفيات الإسرائيلية، بينما تنتقل مجموعات من هؤلاء الأطباء إلى الضفة الغربية لتعويض النقص الموجود هناك. لكن في النهاية، كل هذه النشاطات تجري في إطار “السياسات العضوية” الإسرائيلية التي تأخذ وتُعطي الحياة للفلسطينيين حسب حاجاتها. إنطلاقاً من فكرة مُجرم الحرب آرييل شارون أن قطاع غزّة العاصي يحتاج إلى قصِّ العُشْب كل خمس سنوات، يأتي الجيش الإسرائيلي لسحق السكان الفلسطينيين، بينما الرأسمالي الإسرائيلي يُمكنه أن يستفيد من أعمال الإغاثة في الوقت نفسه! القراءة الحيوية إن أحد العناصر المفقودة في الدراسات والأبحاث الفلسطينية، يكمن في القراءة النقدية لـ”لسياسات العضوية” في فلسطين. ولا شك في أن النُخب السياسية والأوساط الأكاديمية الفلسطينية، المعنية بالصراع العربي – الإسرائيلي، وكذلك بالخطاب السياسي الفلسطيني، يمكنها أن تفهم بصورة أفضل النيّات والحاجات الإسرائيلية إذا ما اعتنت بقراءة “السياسات العضوية” الإسرائيلية أو إدارة إسرائيل لـ”السياسات العضوية” الفلسطينية. وهذا يقودنا إلى التوقف قليلاً عند مسألة “السياسات العضوية” (Biopolitics) لأهميّتها في فَهْم السياسات الإستعمارية وإدارة إسرائيل للوضع الفلسطيني. نشأت مدرسة “الدراسات العضوية” مع الفيلسوف الفرنسي ميشال فوكو الذي أخذ يُحلل دور الدولة والُسلطة في إدارة حياة المواطنين. وهو توصل إلى صوغ نظرية “السياسات العضوية” للنفاذ إلى شكل لممارسة السلطة يتعلّق بإدارة حياة الناس وليس فقط إدارة الأراضي والأقاليم. واشتقَّ من هذه النظرية مفهوم “السلطة العضوية” (Biopower) التي عرفت تطويراً أساسياً على أيدي جورجيو اغامبين وطوني نيغري وروبرتو اسبوزيتو وآخرين غيرهم. وهكذا إعتُمدت هذه النظرية لتحليل السياسات الإستعمارية الغربية، خصوصاً تلك التي أدّت إلى ظهور الإستيطان الكولونيالي في أميركا وأفريقيا وأوستراليا، وإلى إبادة السكان الأصليين أو تدمير حضارات تاريخية في أميركا الشمالية والجنوبية. مراجعة سريعة لتطبيقات “السياسات العضوية” في المستعمرات، تُبيّن أنها أفضت أحياناً إلى تفريغ الأراضي المطلوب السيطرة عليها من السكان الأصليين أو إستيطانها، سواء عبر الإبادة الجسدية أو الهيمنة التي تحقّقها كثافة الإمداد البشري للمهاجرين الجُدد من أوروبا، أو الجمع بين التدبيرَين في آن معاً. وفي الحالة الفلسطينية التي تُعد ميدان الإختبار لآخر ما تبقّى من تقنيات الإستيطان الغربي، إعتمدت “السلطة العضوية” للدولة اليهودية الناشئة على أرض فلسطين، التطهير العرقي الذي يصل إلى حدِّ الإبادة الجسدية، وتمكّنت هذه السلطة بفضل ممارسة الإرهاب الشامل من تفريغ فلسطين المحتلة عام 1948 من حيويّتها وطاقتها السكانية، وتحويل السكان العرب الأصليين إلى كتلة هامشيّة. غير أن المقاومة الحيوية المستمرة للشعب الفلسطيني واستيعاب صدمة النكبة، فرضا تحدّيات وعقبات في وجه “السياسة العضوية” لإسرائيل التي عادت وخطّطت لحرب حزيران/ يونيو 1967 للإستيلاء على كل أراضي فلسطين وتطويق حياة الفلسطينيين بالمستعمرات الاستيطانية والتدابير القسرية ومصادرة الأراضي ومقوّمات الحياة. وما لبث هذا التدبير الجديد من جانب “السلطة العضوية” الإسرائيلية، وخسارة منظمة التحرير الفلسطينية “القاعدة الآمنة” في لبنان، أن دفعا الشعب الفلسطيني في الداخل إلى خوض غمار الإنتفاضة الشعبية لأخذ مصيره بيده؛ الأمر الذي سمح لقيادة منظمة التحرير بالذهاب إلى تسوية غير متوازنة عبر عملية أوسلو (1993) أسفرت عن القبول بتقسيم الضفة الغربية، والتسليم بالاستيطان الصهيوني. وكانت الحصيلة نجاح إسرائيل في تحقيق الإلغاء السياسي للكيان الفلسطيني من دون التخلي عن الإستيطان والإبادة الجسدية في غزّة. علينا أن نقرأ خريطة الإصابات التي ترتسم من جرّاء هذه المعارك الطاحنة، وما تُريده إسرائيل من التهدئة وما لا تريده؛ وكل ذلك ينبني على “السياسات العضوية” الإسرائيلية التي ترى إلى قطاع غزّة باعتباره عمالة فائضة القصور الفلسطيني إقرأ على موقع 180 قومي يا بيروت.. قومي الواقع أنه لو تمَّ اعتماد مقاربة “السياسات العضوية” للتقدم في محاولة فهْم إدارة الإحتلال للجسم الفلسطيني وعلاقته الحيوية بمحيطه العربي والإسلامي؛ لما كان حصل هذا القصور في الدراسات الفلسطينية ومنها التصوّرات التي انطلت عليها خدعة سيناريو إنهاء الإحتلال الإسرائيلي للضفّة الغربية عبر مسرحية اتفاقية أوسلو؛ ولكان في الإمكان أيضاً تجاوز الفشل في رؤية التحولات الديموغرافية الديناميكية التي دفعت المؤسسة الإسرائيلية إلى اللجوء إلى قانون “الدولة القومية لليهود في إسرائيل” (تموز/ يوليو 2018) وذلك لتجاوز المعضلة الديموغرافية التي تُهدّد نقاء “القلعة البيضاء” الصهيونية. ولم تُدرك “السلطة العضوية” الإسرائيلية، أن هذا القانون الأساس الذي يُغلق نظام الفصل والتمييز العنصري، من شأنه أن يُخرج فلسطينيّي الداخل كلّياً من النظام الإسرائيلي عقب تهميش مُزمن، ويُحفّز لدى تجمّعاتهم السياسية والنقابيّة الوعي النقدي لنظام الآبارتيد، دافعاً إيّاهم إلى الاصطدام الرأسي بهذا النظام وتالياً الإنخراط في الإنتفاضة مع إخوانهم، كما رأينا أخيراً في معركة “سيف القدس”. لا يكفي أن نعود إلى المفهوم التقليدي للصراع العربي – الإسرائيلي في بُعديه السياسي والاستراتيجي، لكي نفهم ما تريد إسرائيل من الحروب والإعتداءات الهمجيّة على قطاع غزّة، ومحاولات تهويد القدس والسيطرة على الحرم الشريف. بل علينا أن نقرأ خريطة الإصابات التي ترتسم من جرّاء هذه المعارك الطاحنة، وما تُريده إسرائيل من التهدئة وما لا تريده؛ وكل ذلك ينبني على “السياسات العضوية” الإسرائيلية التي ترى إلى قطاع غزّة باعتباره عمالة فائضة، وأن إدارة القطاع تتناول جزئياً جسداً معوّقاً غير قادر على التأثير السياسي، فضلاً عن أنه عالق في دائرة مفرغة من المرض والطبابة والعلاج. لذلك تحتاج إسرائيل أحياناً إلى بعض التهدئة مع مقاومة غزّة وإلى بعض الوقت، لكن لا حاجة لها بإدامة التهدئة مع غزّة، كونها تحتاج إلى إعاقة الجسد الفلسطيني في سياق ممارسة سياسة الإبادة التي تستهدف عائلات وأحياء كاملة، وتشمل حتى الأطباء والمستشفيات. من الضروري أن نُدرك أن هدف “السلطة العضوية” في إسرائيل، هو التسبّب بالإعاقة للفلسطينيين، وأن تسليط التحليل النقدي على “السياسات العضوية” الإسرائيلية يُعدّ مدخلاً أساسياً لفَهْم الأهداف المرجوّة حتى الآن من إدارة الحصار ومنها التسبّب بالإعاقة التي تجعل مئات المصابين والجرحى عبئاً ثقيلاً على وسطهم الإجتماعي، وقبل ذلك تعطيل طاقتهم الحيوية. والنتيجة هي دفع الفلسطيني في غزّة نحو حالة تراوح بين الخنق والاختناق عبر تحديد دقيق لعملية “منح الحياة وأخذها”: الغذاء والكهرباء والأدوية فضلاً عن إعادة بناء المنازل المدمّرة وضبط حركة الدخول والخروج للمرضى والأطباء وعمّال الإغاثة وكميات الأدوية والأجهزة الطبّية المسموح بها. السؤال الذي بات مُلحّاً في ضوء نتائج “سيف القدس”: هل يمكن للقيادة المشتركة للمقاومة أن تضع حدّاً لهذه الحالة بالتعاون مع السلطات المصرية التي تسعى على ما يبدو إلى استعادة دور القاهرة في الملف الفلسطيني؟ قد يُقدِم الإرهاب الإسرائيلي بسهولة على إرتكاب حماقات تؤدي إلى مجازر جديدة بحق الفلسطينيين، خصوصاً في القدس والبلدات العربية المحتلة عام 1948 إشكالية غزّة غير أنه يتبيّن الآن وقد انقشع مؤقتاً غبار المعارك في القدس وغزّة وعكا ويافا وحيفا وأُمِّ الفحم، أن إدارة “السياسات العضوية” لا يمكن أن تُبدِّل كثيراً في معطيات بُنيويّة راسخة تجعل قطاع غزّة يحمل على الدوام عبء التناقض الأساسي مع المشروع الصهيوني التاريخي ونواته الصلبة المتمثلة في الإستعمار الاستيطاني. وهذا يعني أن إشكالية غزّة المتصلة بعودة اللاجئين، تُمثّل جوهر القضية الفلسطينية وقلب “المفجّر النووي” الذي يستمر في التفاعل لكون التناقض الكامن غير قابل للحل جزئياً أو مرحلياً. ولا يمكن لإشكاليّة غزّة هذه أن تستقر إلا في إطار الحل الأساسي الشامل تحرير القدس والضفّة الغربية، وهنا بيت القصيد في ربط مصير القطاع بمعركة القدس والاستيطان. وفي غياب مثل هذا الحل الذي يُستبعد أن يأتي عاجلاً في رُكاب هبّة “سيف القدس” وإن فَرضت على إسرائيل تراجعاً في سياسة تهويد القدس والهجمة الاستيطانية، يجب أن نتوقّع استمرار الصراع، وربّما تصاعده، في ظل توافق إسرائيلي على صيغة “إدارة الأزمة” مع الشعب والمقاومة الفلسطينيَّين. وفي الأثناء، قد يستمر تفكّك المؤسسة السياسية الإسرائيلية، كما تُظهر أزمتها الحكومية المستعصية، وضمور حالة النُشوة المجنونة المتأتّية من القدرة العسكرية الغارقة في الدم الفلسطيني والعاجزة في آنٍ أمام توحّد المجتمع والمقاومة. وفي الحالة المتمادية من الإفتراق المتزايد بين القوّة والقُدرة، قد يُقدِم الإرهاب الإسرائيلي بسهولة على إرتكاب حماقات تؤدي إلى مجازر جديدة بحق الفلسطينيين، خصوصاً في القدس والبلدات العربية المحتلة عام 1948.