} محمد حسين خليق-البناء
بتنا نسمع: «القدس أقرب»؛ فكيف القدس أقرب، وأي قدس أقرب؟
أقف في طهران ثمّ آتي إلى دمشق… فـ «القدس أقرب»!؟
ثمّ أسافر إلى جنوب لبنان الأبي… فـ «القدس أقرب»!؟
لكنّي أسير على خطى الشهيد اللبناني طحّان خارج كلّ مكان؛ هنا «القدس أقرب».
يلوح في الأفق أمرٌ خطير وهو إبعاد المقاومة – بالمعنى الأخص والحقيقي – عن الكفاح ضدّ الصهيونية العالمية من أجل تحرير القدس والأراضي المغتصبة «إسرائيلياً»، وهذا من خلال ثلاثة أمور:
ـ الأمر الأول: تحجيم القضية الفلسطينية جغرافياً إلى قضية المسجد الأقصى فقط من خلال حصرها باستعادة بعض النقاط المفقودة أو جعلها قضية مرتبطة بعدم تدنيس المسجد الأقصى وضرورة ترك أهالينا في بيوتهم في حي الشيخ جراح! أو محاولة الحصول على مكتسبات جديدة عبر التفاوض وإنْ كان ذلك يستدعي مواجهة عسكرية مسبقة لفترة أسبوعين.
إنّ القضية الفلسطينية غير مرتبطة بأراضي 48 أو غزة أو المسجد الأقصى، بل هي أوسع من اتفاقية «أوسلو»، و «وادي عربة»، وغيرهما بحيث تشمل القضية لواء اسكندرون والجولان والملف النووي الإيراني، بل كلّ القضايا المرتبطة بمسار الأمة والمنطقة، وقد يصل الأمر إلى كشمير وفنزويلا.
ـ الأمر الثاني: وأد القضية الفلسطينية فكريّاً؛ وذلك بإخراج المشكلة الصهيونية في المنطقة بل العالم من حيّز الصراع والمواجهة الشاملة بيننا وبين المعسكر الإرهابي إلى الحيّز الجغرافي المحدود، وكأنّ الصراع ينحصر في نطاق ضيّق جغرافيّاً، وضمن مواضيع محدودة أبرزها الصراع العسكري.
الأمر الثالث: حصر المواجهة بالشكل العسكري لها، وجعل الحلّ في حدود المسار السياسي فقط! وهذا بعينه عدوانٌ آخر على القضية الفلسطينية.
إنّ طبيعة الصراع بين المعسكر الإرهابي ومحور المقاومة تشمل كافة المسارات والأبعاد المختلفة؛ فهي ثقافية وفكرية واقتصادية كما أنّها عسكرية بأشكالها المختلفة، والخطورة تكمن في أنّ الجلاد أمس أصبح يتغنّى بالقضية الفلسطينية اليوم وإنْ كان – البطل هذا – في الوقت نفسه يحتلّ أجزاءً من الأراضي العربية ويغذي الإرهابيين والحركات التكفيرية لضرب الاستقرار في المنطقة وتغيير الحكومات بزعمه وهو في الحقيقة أكبر خادم للمشروع الصهيوني في المنطقة والعالم.
إنّ بعض المنادين بالقضية الفلسطينية والمدافعين عن حقوق الشعوب والإنسان يشكّلون تحالفاً دولياً ضد بلدان عربيّة أخرى، وعندما يُحرجون سياسيّاً يرفعون لواء المسجد الأقصى عالياً من باب كلمة حقّ يُراد بها الباطل! وقد يرسل هؤلاء أطباءً وسيارات إسعاف إلى حدود غزّة لمعالجة الجرحى ـ الأشقاء ـ بفعل عدوان الصديق «إسرائيل».
إنّ الخدعة الفكريّة والثعلبة السياسية هذه لن تنطلي على الشعوب في المنطقة؛ فكما أنّ الشعوب اليوم تنادي بتحرير القدس وفلسطين كلها، تدافع في الوقت نفسه عن حقوقها المسلوبة في البلاد الإسلامية وغيرها.
إنّ الشعوب في المنطقة والعالم تريد تحرير القدس مرتين؛ أوّلاً: من العدوّ الصهيوني المتغطرس في المنطقة والعالم.
الثاني: تحرير القدس كرمز ديني – فيشمل تحرير الكعبة المقدسة وتحرير القرآن الكريم – من خلال تحرير الفكر والثقافة، وإخراج الدين والمقدسات من بوتقة خداع السياسيين وبعض المتفقهين المقنّعين دينياً؛ فإن تسمع كلامهم وترى آثارهم تعجبك أجسادهم وأقوالهم، لكنهم كالخشب المسندة، يحسبون كلّ صيحة عليهم، وهم مع الصهاينة سواء.
إنّ مواجهتنا مع العدوّ – بكل أشكالها ومراتبها – تبدأ من داخل مجتمعاتنا ومن عمق ذواتنا فكريّاً ومشاعريّاً وصولاً إلى العدوّ الخارجي الجاثم على مقدّراتنا وقوّتنا في العالم.
من لم يحرّر نفسه لن يحرّر القدس بتاتاً، ومن يضمر في نفسه الكيد والحقد والأنانية فهو يقف مع الصهاينة وإنْ كان في بيروت أو في دمشق أو في طهران، ولعلّه يضع القرآن على رأسه ليلة القدر التي هي خير من ألف شهر، لكنّه صنم يُعبد في جوف الكعبة أو على ظهرها.
القضية الفلسطينية هي مسألة عقديّة وحكومتيّة وإنسانيّة بامتياز، لا يمكن حلها إلّا حلّا شاملاً بسحق الصهيونية من الوجود فلسفيّاً وماديّاً.
فلنحرّر القدس مرتين؛ حينئذٍ «القدس أقرب»…