لبنان للأميركيين: هاتوا ما لديكم!

“ليبانون ديبايت” – عبد الله قمح

خَمَدَ ملف الترسيم، أحداث فلسطين وغزّة سرقت البريق منه ربطاً بحالة الإهتمام المحلي والإقليمي. البعض في الداخل، ممن يتبنى نظرية البيع والشراء، يُراهن على أحداث الإقليم لكي تحيل ملف الترسيم على النسيان، وهذا متوقّع طالما أن غايتهم الدائمة هي عرض الملفات الوطنية في بازار المتاجرة والمقامرة حين تنضج الظروف ويحلّ موعد العرض والطلب!

لكن الوفد العسكري التقني المولَج أعمال التفاوض غير المباشر مع العدو، ومن خلفه رئاسة الجمهورية وقيادة الجيش في مكانٍ آخر. هم لن يدعوا ما حلَّ ويحلّ بملف تفجير المرفأ من تمييع وتعطيل، أن يتكّرر في ملف ترسيم الحدود البحرية الجنوبية.

ما زال موقف قيادة الجيش هو نفسه ولم يتغيّر. توقيع التعديلات على المرسوم 6433/2011 (نقل حدود لبنان البحرية الجنوبية من الخط 23 إلى الخط 29 ما سيمنحه 1430 كلم2 إضافية إلى 860كلم2 أي ما مجموعه 2290 كلم2 من المياه البحرية) يُعد الممر الإلزامي لحفظ حق لبنان في المياه الجنوبية، وإخضاع الجانب الإسرائيلي لمنطق التفاوض غير المباشر. وعلى عكس ما يُشاع، فرئاسة الجمهورية لم تسقط إحتمال التوقيع من بين قائمة خياراتها المطروحة رداً على سياسة المراوحة المتّبعة.

أتاح رئيس الجمهورية ميشال عون للإتصالات، بعيد انهيار المسار الثاني من المفاوضات غير المباشرة في الناقورة، أن تسلك طريقها، على قاعدة “الذهاب إلى المفاوضات من دون شروط مسبقة”.

حتى الآن لم يرد من الطرف الأميركي الراعي للجلسات أي شيء يُذكر. متابعون يميلون من أجل تحليل خلفيات الموقف الأميركي إلى سببين. الأول أن التأخير ربّما نابع من الإنشغال بمعركة غزّة وتبدّل قائمة الأولويات الأميركية إلى جانب التغييرات المفترض حصولها على صعيد وزارة الخارجية، والوفد المعني رعاية أعمال التفاوض غير المباشر، والثاني يغلب ظنّه على احتمال مراهنة واشنطن على عامل الوقت، وممارسة ضغط على الجانب اللبناني لجلبه “مخفوراً” إلى الطاولة، ووفقاً لحسابات واشنطن وتل أبيب.

على الطرف اللبناني الجمود هو نفسه. مصادر مطلعة على ملف التفاوض، تؤكد أن الجانب اللبناني قدّم ما لديه خلال الجلسة الخامسة، والتي عُقدت في الناقورة بتاريخ 4 أيار الجاري، وينتظر من الجانب الآخر إعلان أو تقديم ما لديه، وبناء على ما يرد من إجابات تُقرّر طبيعة الحضور ومستقبل عملية التفاوض.

في الواقع، يظنّ الطرف الأميركي أن لبنان “مزروك”، وهو صاحب مصلحة في استئناف جلسات التفاوض، لذا يُراهن على “استعجال مفترض” يتمركز عند الضفة اللبنانية. وفي اعتقاده أن لبنان لن يتأخر حتى يؤمّن تنازلاً ما يفضي إلى تسيير أمر التفاوض عاجلاً أم آجلاً. إذاً هي لعبة “شدّ حبال” يُدركها الطرف اللبناني جيداً، بل ويدرك أن الإفتراضات الأميركية في غير مكانها، إنما غير معني بها، طالما أن المؤشرات تظهر أن الطرف المستعجل يقبع عند الضفة الإسرائيلية وليس العكس.

عملياً، أعاد الوفد اللبناني المفاوض تقديم طروحاته السابقة في الجلسة الخامسة والأخيرة، أي حصر وتحديد نقاط الإختلاف المتمثلة أولاً بتحديد نقطة إنطلاق خط الحدود البحرية، وثانياً تحديد نسبة التأثير الممكن إعطاؤها لصخرة “تخيّلت” في ترسيم تلك الحدود.

وبخلاف ما يُشاع، لم يبدِ الفريق المفاوض أي تمسّك بالخط 29، إنما أبدى التمسك بالقانون الدولي والمصلحة الوطنية العليا كأساس للوصول الى حل عادل ومنصف يؤمن الحفاظ على الثروة النفطية ويؤمن الإستقرار لعمل شركات النفط في المنطقة الحدودية، وهذا يطرح انسيابية ومرونة في التفاوض على قاعدة جهوزيته لنسف كافة الخطوط وإعادة البحث من جديد على أساس “الإتفاق على خط ترسيم جديد إنسجاماً مع القوانين الدولية المعمول بها”، لكن العرقلة تأتي من الطرف الإسرائيلي المدعوم أميركياً.

إذ، وبحسب معلومات “ليبانون ديبايت”، أُبلغ الوفد اللبناني المفاوض من الجانب الأميركي خلال الجلسة الأخيرة، تحفظه على طرح الخطوط اللبنانية، والتزامه فقط برعاية التفاوض بين الخط 1 الإسرائيلي والخط 23 اللبناني المودعين لدى الأمم المتحدة (أي ضمن منطقة الـ860كلم2). واللافت أن الوفد الأميركي ذكر، نيابة عن الإسرائيلي، أنه عاد إلى التفاوض بعد وعود تلقاها من الجانب اللبناني حيال التزام الفريق المفاوض بهذا المندرج، وهو ما دفع بالفريق اللبناني إلى استغراب ما سمع، ونفي أن يكون قد تلقى أي تعليمات بهذا الصدد.

وإزاء التزام الوفد العسكري التقني بمعاييره ورفض الجانب الأميركي قبل الإسرائيلي الخوض في التفاوض بما يتجاوز خط الـ23، طلب الوفد اللبناني من الجانب الأميركي وجوب متابعة التفاوض دون وضع شروط مسبقة، كون هذه الشروط لن تؤدي إلى أي حل، وبالتالي تكون سبباً بفشل الوساطة الأميركية.

وفي المعلومات، أن تواصلاً سجل على خط بعبدا – واشنطن على أمل إعادة تفعيل الجلسات، لكنه لم يثمر عن شيء لغايته. فالأميركيون، ليسوا في وارد العودة إلا بعد حصولهم على ضمانات من الجانب اللبناني حيال حصر التفاوض ضمن رقعة الـ860 كلم2. في المقابل، الطرف اللبناني يرفض أي إملاء ويقول للأميركيين بصراحة: “إن القانون الدولي ومصلحة الشعب اللبناني هي المرتكز الأساسي للوفد المفاوض، وهذا كل ما لديه!”.

ما سمعه الوفد اللبناني على الطاولة من الجانب الأميركي حول وعود سياسية أسديت إلى واشنطن (يعتقد أن ذلك حصل خلال زيارة وكيل وزارة الخارجية ديفيد هيل إلى بيروت الشهر المنصرم) دفع بالوفد إلى طرح هواجسه على رئيس الجمهورية ميشال عون مباشرةً بعد انتهاء “الجلسة الخامسة”، فأبدى “كل الحرص على حق لبنان وصوابية المطالب، وأبدى كل ثقة بجهود الوفد المفاوض، عكس ما أضمر الساعين إلى تملق الوسيط الأميركي من بعض أصحاب المصالح الضيقة، والذين حاولوا تمييع المطالب والرضوخ مسبقاً للإبتزاز الأميركي.

في الواقع، مسألة التأثير السلبي لم تعد حكراً على تلك الفرقة في ظل انضواء مجموعات سياسية كبيرة خلف وجهة النظر الأميركية أو مراعاتها. لمس ذلك خلال إجتماع لجنة الشؤون الخارجية في مجلس النواب. فصحيح أن أعضاء اللجنة عبروا أمام الوفد اللبناني المفاوض عن تقديرهم لدوره ودور قيادة الجيش في عملية الترسيم، وأبدوا تأييدهم الكامل لطروحاته، لكنه وحين حل زمان صدور التوصيات، لم تعكس وجهات النظر تلك في النص الذي جاء خجولاً إلى درجة الطلب إلى الوفد تفادي تناول هذا الموضوع في الإعلام، وكأنه يُراد أن ينسى الشعب اللبناني هذا الموضوع السيادي الهام، والذي يُعتبر أحد أهم ركائز النهوض الإقتصادي.

وكان الأجدى من هذه اللجنة النيابية القيام بخطوات عملية تعتبر من صلب مهامها، ألا وهي متابعة الموضوع مع وزارة الخارجية والمغتربين للقيام بدورها عبر سفارات لبنان في الخارج وشرح وجهة نظر لبنان أمام المجتمع الدولي، وتشجيع المغتربين اللبنانيين في الخارج لتأمين “لوبي” داعم للبنان في دول الإغتراب كما يفعل الإسرائيلي بالضبط.

Exit mobile version