فلسطين تحاكم محتلها أمام الغرب.. بالصوت والصورة
زاهرة حرب
شهد الخطاب الإعلامي الأنغلو-أميركي بشأن النضال التحرري للشعب الفلسطيني نقلة ملحوظة باتجاه الإعتراف بالمعاناة الفلسطينية خلال المواجهات الأخيرة على أرض فلسطين المحتلة. التغريبة الفلسطينية باتت أمراً يُسترجع ويستشهد به في التغطية الإعلامية الغربية وقوده أصوات فلسطينية شابة. أصبحت الرواية التاريخية لاقتلاع الفلسطيني من أرضه وتهجيره حقيقة تاريخية، بعد ان تم إنكارها وتهميشها لعقود طويلة. السردية التاريخية للتغريبة الفلسطينية باتت قيد التداول في دول غابت هذه السردية عن وعيها المجتمعي لسنين طويلة. التغيير وان كان ليس جذرياً، لكن يمكن ملاحظته في الاعلام الأميركي المرئي او المكتوب بشكل أساسي (طال بنسبة اقل الاعلام البريطاني)، والامثلة عديدة ومنها شبكتا CNN وMSNBC وقناة HBO الترفيهية وأيضاً في مقالات الرأي في كبريات الصحف الأميركية مثل نيويورك تايمز وواشنطن بوست ولوس انجلس تايمز. هذا الفرق أحدثه بشكل أساسي الصوت الفلسطيني المتمكن من اللغة الإنكليزية الذي وجد له حيزاً في مساحة تغطية العديد من وسائل الإعلام الجماهيرية في الولايات المتحدة الأميركية. هذا الصوت كانت له المساهمة الأكبر في تجسيد التغريبة وإستمرارها وفي رسم صورة كاملة عن معاناة الشعب الفلسطيني وفي تحديد الجاني والمجني عليه وفي تفريغ الإدعاءات الإسرائيلية بالتفوق الأخلاقي من محتواها. أصواتٌ متمكنة من اللغة الإنكليزية، ذات لهجة واضحة تُوصل صوت معاناتها مع الإحتلال الإسرائيلي ومعاناة شعبها بشكل مبسط خال من التعقيدات والإيديولوجيا مثل محمد الكرد، ومنى الكرد، ونورا عريقات ونورا عودة ومريم البرغوثي وناي البرغوثي ونادين عبد اللطيف (10 سنوات) وغيرهم/هن. أصبحت الكلمة الصادقة والصورة الموثقة هما السلاح الفلسطيني الفعال بوجه الغطرسة الإسرائيلية لدى الرأي العام العالمي. نتحدث هنا عن الكلمة النابعة من قلب المعاناة والصورة التي توثق الانتهاكات الإسرائيلية لحقوق الانسان من دون أية إضافات. ابرزت المواجهات الأخيرة أهمية مخاطبة الجمهور الغربي ليس فقط بلغته وانما ايضا بتعابير انسانية تتعلق بحقوق الانسان يستطيع التفاعل معها. جيل من النشطاء الشباب بدا كأنه امضى سنين من التدرب على مخاطبة الكاميرا تفوق أعمارهم الفتية وتجاربهم الندية. مع تمكن الصوت الفلسطيني، لغوياً وعاطفياً ومعرفياً، من مواجهة التنميط الذي يطاله، فتح الباب على مصراعيه أمام التشكيك في “الإنسانية” المزعومة لدولة الاحتلال الجيل الفلسطيني الشاب حدّد بشكل تلقائي ومن دون استراتيجيا وبلا خطط إعلامية مضمون الرسالة التي يريد ايصالها للعالم: نحن نستحق الحياة والعيش بكرامة وحرية.. و”حياة الفلسطينيين مهمة” وهو شعار مستلهم من الشعار الأميركي “حياة السود مهمة”. الصورة النمطية للفلسطيني “الإرهابي” المسلح لم تعد هي الصورة الطاغية، وحلّ مكانها الفلسطيني الذي لا يختلف، شكلاً ولهجة ومضموناً إنسانياً، عن الملايين الذين يتابعونه عبر الشاشات في شتى أنحاء العالم. ما كان يوماً تعاطفٌ ودعمٌ من دون مساءلة لإسرائيل في زعمها محاربة ما إعتبرته “إرهاباً” في رسالتها الإعلامية وتُرجم تأطيراً سلبياً مشوهِاً للنضال الفلسطيني في الاعلام الأميركي المتلفز، على سبيل المثال. مع تمكن الصوت الفلسطيني، لغوياً وعاطفياً ومعرفياً، من مواجهة التنميط الذي يطاله، فتح الباب على مصراعيه أمام التشكيك في “الإنسانية” المزعومة لدولة الاحتلال. أصبحت مفردات مثل إسرائيل دولة الفصل العنصري، والدولة الكولونيالية ودولة التطهير العرقي لا تواجه بالإقصاء والإستنكار من قبل مذيعين ومعدين لم يكونوا يفقهون شيئاً عن الصورة الأخرى والصوت الآخر والرواية الأخرى. أفسحت اللغة المجال لإيصال رواية أهل الأرض واصحابها إلى مساحات كانت حكراً على الإسرائيلي لسنوات عن قصد أو عن غير قصد. هذا التحول تُرجم ادانة مباشرة لإسرائيل في ارتكابها جرائم حرب في فلسطين. هذا ما قام به المقدم الأميركي الشهير وصاحب برنامج “الأسبوع الماضي الليلة” جون اوليفر، وهو موقف تناقلته وسائل إعلامية أخرى حول العالم الناطق بالانكليزية وغير الناطق بالإنكليزية، وتريفر نووى مقدم برنامج ذي ديلي شو على شبكة “كوميدي سنترال” و”سي بي اس“، وأفسح في المجال أيضا أمام معلقين أميركيين آخرين وأعضاء في الكونغرس لكي يرفعوا الصوت عالياً رفضاً للاضطهاد الذي يتعرض له الشعب الفلسطيني. العنصر الآخر الذي ساهم في تعميم وإيصال الصوت الفلسطيني والصورة الفلسطينية والرواية الفلسطينية عبر الحدود هو قدرة الفلسطيني على إستخدام الهواتف المحمولة لتوثيق معاناته وإنتهاكات حقوق الإنسان التي تمارسها دولة الإحتلال وعمليات القمع والتمييز العنصري والقتل التي يتعرض لها على إمتداد الخارطة الفلسطينية بالصورة وتعميم هذه الصورة عبر وسائل التواصل الاجتماعي. هذا التوثيق الذي تلقفه مشاهير الفن والثقافة والميديا في كل من الولايات المتحدة وبريطانيا ودول أخرى كان أيضا له مفاعيله الإيجابية على الرأي العام العالمي وحملات التضامن العالمية التي شهدناها مع الشعب الفلسطيني. جيل “التيك توك” الذي استطاع الوصول الى جيل “زد” وخاض معركة فشلت في خوضها القيادة التقليدية لسنوات، وهذا النجاح اقرت به صحيفة “هآرتس” الإسرائيلية. خسرت إسرائيل حربها الإعلامية، وخسرت معركة الإستقطاب الأحادي للرأي العام العالمي. لم تنفع ولم تنجح الرواية الإسرائيلية في إخفاء وإقصاء أطفال غزة عن التعبير بعفوية وصدق عن ماهية أن تحيا في ظل جبروت إحتلال عسكري لكيان كولونيالي قائم على سياسة التطهير العرقي الحري بالقول إن وسائل التواصل الاجتماعي لم تكن مساحة مفتوحة ومن دون عوائق. إحدى هذه العوائق جسدتها الوحدة الالكترونية التابعة لمكتب المدعي العام الإسرائيلي، والتي أعطتها المحكمة العليا في إسرائيل حق التقدم من الشركات المشغلة لمنصات تويتر وفايس بوك وانستغرام بطلب اغلاق حسابات لناشطين فلسطينيين وغير فلسطينيين وحذف منشوراتهم بحجة انهم يروّجون للإرهاب. قمعٌ للتعبير بلغ ذروته خلال مواجهات المسجد الأقصى والشيخ جرّاح وبرّرته شركات وسائل التواصل الاجتماعي بالخطأ التقني وجرت إعادة للحسابات إلى أصحابها عندما رفع هؤلاء الصوت لإبراز أهداف الإجراءات الرقابية غير العادلة، الأمر الذي ظهر للعلن بفعل قدرة هؤلاء الناشطين على الإستخدام الناجح والمهني للعديد من منصات التواصل بشكل متوازٍ. إقرأ على موقع 180 السعودية الخائفة من إيران.. بأية وظيفة تُغري بايدن؟ بالمقابل، فإن الحكومة الإسرائيلية، وعبر إقفالها حسابات ناشطين فلسطينيين وإسرائيليين داعمين للحق الفلسطيني ومناهضين للإحتلال وحذف منشوراتهم على وسائل التواصل الاجتماعي، قدّمت نفسها على أنها كيان سلطوي لا يمت بصلة إلى الديموقراطية التي لطالما تغنت بها. هذه الحقيقة أصبحت موثقة وبمتناول الجميع داخل فلسطين المحتلة وخارجها وأثارت موجة تضامن عالمية دفاعاً عن حق الفلسطيني في التعبير عن معاناته وفضح انتهاكات السلطة الإسرائيلية لحقوقه الإنسانية أولاً ومخالفتها للقانون الإنساني الدولي ثانياً. لسنا الآن بصدد تقييم وتحليل ما جنته آلة الحرب الإسرائيلة في هجومها على غزة، وهل حقّقت مكاسب تبرر عدد الأبرياء الذي إستشهدوا أو دُمّرت بيوتهم وباتوا بلا مأوى أو هُجّروا، لكن الحقيقة الواضحة أنها خسرت حربها الإعلامية، وخسرت معركة الإستقطاب الأحادي للرأي العام العالمي. لم تنفع ولم تنجح الرواية الإسرائيلية في إخفاء وإقصاء أطفال غزة عن التعبير بعفوية وصدق عن ماهية أن تحيا في ظل جبروت إحتلال عسكري لكيان كولونيالي قائم على سياسة التطهير العرقي والفصل العنصري. إنتصر شباب وشابات وأطفال فلسطين في تكريس روايتهم وعكسوا، بفضل قوة وتمكن صوتهم وصورتهم وحضورهم (والتيك توك ويوتيوب سلاحهم) أنهم الممثل الأجدى والأجدر للشعب الفلسطيني. لنراقب هذا الجيل الجديد.