زياد حافظ
بينما العالم الغربي، والدول التي تدور في فلكه، منهمك بما يحصل في الولايات المتحدة والتهافت الذي تتميّز بها سياسات الغرب وخاصة الولايات المتحدة يتأكّد يوماً بعد يوم أن قيادة العالم خرجت من تحت سيطرة الغرب ولن تعود إليه. من يقود العالم هو الكتلة الأوراسية ومن يتحالف معها في كل من أميركا اللاتينية أو إفريقيا أو الجمهورية الإسلامية في إيران أو في الوطن العربي. حتى الآن، ليس في الوطن العربي إلاّ سورية ومعها محور المقاومة واليمن على ما يبدو مَنْ حَسَمَ الخيار الإستراتيجي في ذلك الإتجاه وبالتالي السياسات الناتجة عنه. ما نقوله تثبّته الأحداث وخاصة ما شهدناه في منتدى دافوس الذي إنعقد افتراضياً في أواخر شهر كانون الثاني/ يناير 2021. الكلمات المميّزة في المنتدى كانت لكل من الرئيس الصيني زي جينبينغ والروسي فلاديمير بوتين ولا يمكن تجاهلها خاصة أن قيمة كلمتيهما تأتي من عنوان المنتدى “إعادة التعيين الكبير” (the Big Reset) بمشاركة أقطاب العالم المالي والإقتصادي والفكري. هاتان الكلمتان كانتا بمثابة الوثيقة التاريخية التي حدّدت مراحل مفصلية في تاريخ الدول والبشرية. لكن ماذا عن مفهوم “إعادة التعيين الكبير”؟ إنه مفهوم يثير الجدل حيث نظرية المؤامرة تفضي إلى أن هدف المؤتمر وبالتالي “إعادة التعيين” إنما السيطرة على العالم، وفقاً لنموذج إقتصادي إجتماعي ينزع من الفرد حرّية التفكير ويُخضعه لسيطرة النخب الحاكمة. ليس هدفنا البحث في تفاصيل ذلك المفهوم المثير بل التركيز على أن كلمتي الرئيسين الصيني والروسي جاءتا في “عكس السير”، أي أنهما تطرحان نموذجاً مختلفاً عما تريده النخب النيوليبرالية الحاكمة في الغرب بشكل عام والولايات المتحدة بشكل خاص. من يتابع خطابات القيادات الأميركية، يرى الفرق الكبير بين التركيز الصيني والروسي على المصالح المشتركة وضرورة الأخذ بالإعتبار مصالح الجميع وبين الأحادية في المصالح والأنانية المسيطرة على الخطاب الغربي عموماً والأميركي خصوصاً من يتابع خطابات بوتين وزي جينبينغ خلال السنوات الماضية، يجد أن الكلمتين اللتين ألقيتا في منتدى دافوس كرّستا عدّة مفاهيم طرحاها في مناسبات عديدة. المفهوم الأول هو أن العلاقات الدولية يجب أن تكون مبنية على قاعدة الربح المشترك لجميع الأطراف. أما القاعدة الأميركية والغربية عموماً فهي مبنية على القاعدة الصفرية، أي أن الربح للولايات المتحدة و/أو الغرب مقابل الخسارة للطرف الآخر. لذلك بدأت دول عديدة تنظر إلى النموذج الصيني ـ الروسي في العلاقات الدولية بوصفه يُشكّل نموذجاً يمكن بل يجب الإقتداء به. قاعدة التفاهم عند هاتين الدولتين هي إحترام الغير ومصالحه بينما القاعدة في التعامل الأميركي والغربي هو الربح للولايات المتحدة والغرب والإمعان في “خسارة” الطرف الآخر. فالدول يجب أن تكون خاضعة للمشيئة الأميركية و/أو الغربية ولا يجوز القبول بأنها على مستوى من الندّية مع الولايات المتحدة والغرب. هذا هو مفهوم الإمبراطورية الأميركية، وهذا هو مفهوم “الشراكة” مع الإتحاد الأوروبي والصيغ المختلفة من شرق أوسط، أو بحر متوسط أو شمال وجنوب إلخ. كما أننا لاحظنا أن خطابات الرئيسين الصيني والروسي تأتي متقاربة في الزمن وفي المضمون، ما يدل على عمق التنسيق الثنائي في مواجهة الولايات المتحدة والغرب. المفهوم الثاني هو أن رخاء الدول هو هدف مشترك يعزّز الاستقرار بينما النظرة مختلفة عند الولايات المتحدة والغرب حيث الاستقرار يرتكز فقط إلى عامل القوّة العسكرية المفرطة. فليس في الولايات المتحدة من إيمان بالدبلوماسية لأنها لا تعتقد أن لدول العالم حقوقاً خاصة إذا كانت على تناقض مع ما تعتقده الولايات المتحدة من “مصالحها”. وهذه الدبلوماسية ترتكز إلى إعادة الاعتبار للأمم المتحدة وميثاقها وما يصدر عنها من قرارات والقانون الدولي في شتّى المجالات. هذا يعني أن الحركة الروسية الصينية حركة داخل إطار الأمم المتحدة والقوانين الدولية بينما الحركة الأميركية هي خارج القانون الدولي وخارج إطار الأمم المتحدة. ما هي الأهداف التي يروّج لها كل من الرئيس الصيني والرئيس الروسي؟ جاء في خطاب الرئيس الصيني في مؤتمر دافوس الافتراضي أن الأهداف التي تسعى إليها الصين هي الآتية: أولاً، تعزيز التنسيق في السياسات الاقتصادية الكلية الشاملة، وتضافر الجهود لتحقيق النمو القوي والمستدام والمتوازن والشامل للإقتصاد العالمي. في هذا السياق، استذكر الرئيس الصيني مآسي الحرب العالمية (وهنا نرى مدى التشابه في مقاربة الرئيسين الصيني والروسي حول مآسي الحرب العالمية)، وحقبة الاستعمار التي جعلت عدداً من دول العالم في حال تخلّف لا بد من الخروج منه عبر تنمية مستدامة. كما اعتبر أن تركيز الجهود في المرحلة الحالية ينصب على مكافحة جائحة الكورونا وهي من الأولويات في رأيه. ثانياً، نبذ التحيز الأيديولوجي والسير على طريق التعايش السلمي والمنفعة المتبادلة والكسب المشترك. ويختلف هذا الخطاب عن الخطاب الأيديولوجي الذي تروّجه الإدارة الأميركية التي تتكلّم عن نهج نيوليبرالي يعتمد قاعدة اللعبة الصفرية والذي يرفض العمل بالقانون الدولي. فما تروّج له الولايات المتحدة هو “عالم مبنى على الأحكام” (rules based order) وليس على القانون الدولي. ومن الواضح أن “الاحكام” التي تتكلّم عنها الولايات المتحدة هي “القيم” دون أن تحدّدها ودون الإلتزام بمعايير واضحة. بطبيعة الحال هي معايير متغيّرة، وبالتالي ليس هناك من قواعد ثابتة إلاّ إرادتها وما تقوله، وهذا أمر ليس مقبولاً لا عند الصينيين ولا عند الروس، ولا في العالم أجمع إلاّ الذين يعتبرون أن الولايات المتحدة قدرٌ فُرض عليهم كبعض الدول العربية والغربية. إقرأ على موقع 180 ورقة الحكومة المستقبلية.. تكرّس خيارات ماضية (1) ثالثاً، ضرورة تجاوز الفجوة المتفاقمة بين الدول النامية والدول المتقدّمة. ويعتبر الرئيس الصيني أن التفاوت بين الشمال والجنوب وعدم المساواة بين الدول لا يؤدّي إلى الاستقرار. فلا تنمية دون عدل. وما يلفت النظر هو تلازم التنمية مع العدالة الاجتماعية، وهذا خطاب تمّ تغييبه في الغرب بشكل عام والولايات المتحدة بشكل خاص. رابعاً، يعي الرئيس الصيني ومعه الرئيس الروسي أن هناك تحدّيات كونية يجب مواجهتها سوياً. فجائحة الكورونا تتطلّب تعاوناً وثيقاً بين جميع الدول. هذا ما أكّده الرئيس الصيني بينما ما شهده العالم هو إنغلاق أناني للدول المتقدمة وتجاهل الدول الأقل نمواً وإزدهاراً. ويمكن الإضافة أن حتى بين الدول المتقدمة لم يكن التعاون بينها على المستوى المطلوب وربما قد ساهم ذلك في تفاقم الجائحة. فقضايا العالم متشابكة ومعقّدة وبالتالي يدعو الرئيس الصيني إلى “التمسك بالإنفتاح والتسامح، بدلاً من الانغلاق والإقصاء”. ضرورة تجاوز الفجوة المتفاقمة بين الدول النامية والدول المتقدّمة. ويعتبر الرئيس الصيني أن التفاوت بين الشمال والجنوب وعدم المساواة بين الدول لا يؤدّي إلى الاستقرار. فلا تنمية دون عدل. وما يلفت النظر هو تلازم التنمية مع العدالة الاجتماعية واجبات العالم المشتركة عديدة. منها الإلتزام بالتعاون، ومنها الإلتزام بالقانون الدولي والقواعد الدولية، ومنها الإلتزام بالتشاور والتعاون بدلاً من المجابهة والتصادم، ومنها مواكبة العصر وعدم رفض التغيير عبر الإستمرار في البحث التكنولوجي، وهذه التزامات تعهّد الرئيس الصيني بأن تقوم بها الصين. ولعل الجملة التي لفتت نظر العديد من المراقبين هي أن التباين بين المجتمعات من ناحية الثقافة لا يجب أن يكون مصدراً للقلق. الاختلاف ليس تهديداً وكأنه يرد بشكل مباشر على كل من يعتبر الصين أو روسيا مصدر تهديد للعالم. ومن يتابع خطابات القيادات الأميركية، يرى الفرق الكبير بين التركيز الصيني والروسي على المصالح المشتركة وضرورة الأخذ بالإعتبار مصالح الجميع وبين الأحادية في المصالح والأنانية المسيطرة على الخطاب الغربي عموماً والأميركي خصوصاً. أما الرئيس الروسي فكان خطابه متشابهاً بل متكاملاً مع خطاب نظيره الصيني. ومع التأكيد على المبادئ التي وردت في خطاب الرئيس الصيني والمذكورة أعلاه، حدّد الرئيس الروسي أربع أولويات في مواجهة المرحلة المقبلة: الأولوية الأولى هي ضرورة إيجاد مساكن مريحة للجميع. نلاحظ أنها المرّة الأولى التي تتم الإشارة فيها إلى أن قضية الإسكان تكون أولى الأولويات في المشروع التنموي الذي يدعو إليه. لم يقدّم خارطة طريق لتحقيق ذلك الهدف بل إكتفى بالقول لنا إن قضية الإسكان هي أولى الأولويات، وهذا شيء جديد. الأولوية الثانية هي إيجاد فرصة عمل لكل فرد وتأمين التعليم مدى الحياة. فبعد الإسكان هناك العمل ومع العمل هناك التعليم أو التربية المستدامة. الأولوية الثالثة هي أن الثقة يجب أن تكون موجودة لدى الجميع بأنهم سيحصلون على عناية طبية عالية المستوى. فالصحة تواكب التنمية. الأولوية الرابعة هي ضرورة حصول الأطفال، بغض النظر عن الظرف العائلي والدخل، على تعليم عالٍ ما يتلازم مع الأولوية الثانية المخصّصة للراشدين. هذه الأهداف ـ الأولويات وضعها الرئيس الروسي في سياق واقعي عندما أقرّ أن هذا قد يتعثّر إذا ما استمرّت الدول في منهاج التنافس والتصادم وأقرّ أن للأسف هذا سيستمر. بالنسبة لنا كعرب ولا سيما الملتزمين بالسيادة الوطنية وبخيار المقاومة لتحرير فلسطين والتصدّي للهيمنة الغربية، فإن الملاحظة التي نبديها تعود إلى التباين الجذري في مقاربة الصين وروسيا للقضية الفلسطينية. من جهة، نتوافق مع المنهجية الروسية الصينية في مختلف القضايا العالمية لكن ذلك المنهج لا يتطابق مع أهدافنا لتحرير فلسطين. فمنطلق مقاربتهما مبنية على التمسّك بـ”الشرعية الدولية” والقانون الدولي، وقرارات مجلس الأمن، وميثاق الأمم المتحدة، ومختلف المواثيق الدولية التي تنظّم العلاقات، وهذه القوانين تحافظ على وجود الكيان ككيان مصطنع مزروع في قلب الأمة. اختلافنا، وإن نأمل ألاّ يصل إلى خلاف، مع الصين وروسيا هو أن هدفنا هو التحرير عبر المقاومة. وهذه مسألة تقلقنا خاصة في مقاربة الحل السياسي في سورية حيث من منظورنا للحرب الكونية على سورية قضية فلسطين هي يقين هدف العدوان. فنحن مع القانون ولكن عندما يتناقض القانون مع العدل.. ننحاز بدون تحفّظ إلى العدل وإن كان على حساب القانون. فكيف يمكن فرض حلّ سياسي من منظور دولي يحافظ على وجود الكيان ويكبح الدعم للمقاومة لتحرير فلسطين؟ هذا سؤال لا نريد الإجابة عليه الآن بل هو في رسم مكوّنات محور المقاومة للتفكّر ليس إلاّ.