|
رضوان السيد – أساس ميديا – الإثنين 24 أيار 2021 |
انهمك المحلّلون السياسيون والعسكريون في إسرائيل، بل وفي الولايات المتحدة وفرنسا، بدراسة ما حصل من حربٍ على مدى أحد عشر يوماً بين إسرائيل من جهة، وحماس والجهاد الإسلامي من جهة ثانية. والدراسة قسمان: قسمٌ يُعنى بالجوانب العسكرية، وقسمٌ آخر يُعنى بالجوانب السياسية والاستراتيجية.
في الجانب العسكري يقول معظم هؤلاء إنّ التنظيمات الفلسطينية كانت مستعدّةً ومتحفّزة، وكان الإسرائيليون يقدّرون أنّ لديها حوالى أربعين ألف صاروخ من مختلف الأنواع. لكن لماذا غامرت بإنشاب النزاع؟ هناك عدّة عوامل:
الأوّل هو الاعتقاد أنّه لا بدّ من انتهاز الفرصة بعد الفشل المشهود لإدارة الرئيس محمود عباس، أبو مازن، في إدارة الصراع، سواء في الانتخابات أو في القدس.
الثاني: الظهور بمظهر الحريص على كلّ فلسطين، وفي قلبها القدس، وبخاصةٍ أنّ حماساً والآخرين هم تنظيمات إسلامية.
والثالث: الظهور بمظهر الممثّل للشعب الفلسطيني، الذي يمتلك القدرة على الدفاع عن الشعب ومصالحه في كلّ أنحاء فلسطين.
والرابع هو التعرّض لتدخّل إيراني حثيث من أجل الهجوم، وبخاصةٍ إذا لاحظنا أنّ تنظيم الجهاد الإسلامي، الإيرانيّ الصِلات، هو الذي بدأ بإطلاق النار قبل حماس.
والخامس هو التوجّه إلى العالم الغربي والتبيان له أنّ المسلّحين هم الجهة الأقوى والأكثر تمثيليّة حتّى بين المدنيين الفلسطينيين بعدما تصدّعت وتهالكت سلطة أبو مازن وصحبه. وقد عهدت حماس إلى مصر وقطر وتركيا (وكلّها لها علاقات بإسرائيل) بالوساطة الحميدة مع العدوّ.
يعتقد المراقبون شبه المحايدين أنّ ردَّة الفعل الإسرائيلية على القطاع ما قضت على الأنفاق ولا على الصواريخ المدمّرة، وأساءت إلى سمعة إسرائيل بسبب الفتك بالأطفال والنساء (الذين يبلغ عددهم ثلث الضحايا). وما عدا ذلك يتوزّع هؤلاء المراقبون بين رأييْن:
– رأي يقول بالاكتفاء بالهدنة وعدم الانفتاح على الحلّ السياسي لأنّه ليس لمصلحة إسرائيل الآن.
– ورأي آخر يقول إنّ إسرائيل اليوم أو غداً مضطرّة إلى السير في الحّل السياسي الذي تسامحت معها فيه إدارة الرئيس الأسبق باراك أوباما، وانحازت إليها ضده إدارة الرئيس السابق دونالد ترامب: ماذا نفعل مع 7 ملايين إنسان. وماذا نفعل مع 20% من السكّان العرب في الأراضي المحتلّة قديماً، وإلى متى يصلح هذا الفصل العنصري، وهذا التغوّل بالمستوطنات؟!
لا شكّ أنّ هناك “نهضةً” في العالم لمصلحة الحقّ الفلسطيني، والحرب على الأقصى وعلى حيّ الشيخ جرّاح والفظائع في غزة، كلّ ذلك يدفع الرأي العامّ العالمي ومجلس الأمن والجمعية العامّة للأمم المتحدة باتجاه حلّ الدولتين عاجلاً وليس آجلاً.
كلّ العالم الآن، وفي الطليعة الشعوب العربية والإسلامية، مستيقظٌ ومتحفّز من أجل التضامن مع غزّة. حتّى الإدارة الأميركية تُسابق من أجل المساعدات الإنسانية لغزّة.
لكن ماذا على الجانب الفلسطيني، وماذا على الجانب العربي؟
على الجانب الفلسطيني لا يزال الوضع على ما هو عليه. وبعد الحرب يزداد أبو مازن ضعفاً، وتزداد حماس قوّة. لكنّ الأيديولوجيا الإسلامية لدى حماس والجهاد تزداد تشدّداً. حتّى في الدوحة وأمام التلفزيون يخطب إسماعيل هنية داعياً إلى تحرير حيفا ويافا، وليس القدس والضفة فقط، باعتبار أن الشعب الفلسطيني في ما وراء الخط الأخضر قد ثار أيضاً من أجل القدس ومن أجل حقوقه “في أرض فلسطين”. لكنّني استغربت عندما خَصَّ “صفد” بالذكر، ثمّ تبيّن أنّ عزمي بشارة منها. هو المقيم في قطر منذ عقود، حيث يشارك في إدارة الإعلام وفي إدارة مراكز للدراسات وفي تقديم الاستشارات السياسية للقيادة القطرية.
هناك نغمة يقظة وإثارة في الوعي الإخواني بشأن ظهور حزب إسلامي يعمل حرباً وسلماً من أجل التحرير. لقد كان ذلك موجوداً من قبل، وبخاصة بعد السيطرة على غزّة عام 2007. لكنّ الناس نسوا وانصرف الاهتمام إلى حزب الله. ووسط الخيبات بعد “الربيع العربي”، يبدو نموذج حماس حافزاً موحياً في المجتمعات العربية.
هناك موجات تديّن عالية الوتيرة، وبالطبع لا علاقة لها بحماس ولا بالإخوان، ويغلب عليها النزوع الصوفي. لكنّ مسألة الأقصى، والـ80 ألف شاب فلسطيني المتّجهين إلى هناك لقيام ليلة القدر، كلّ ذلك يبعث رسائل، بعضها لمصلحة حماس باعتبارها في الإعلام إنّما شنّت الحرب من أجل الأقصى.
لا بدّ للتديّن الشعبي من حاضن، أو حواضن، وإن لم يجده في دولنا ومجتمعاتنا ومؤسّساتنا الدينية فأين يجده إلّا عند أمثال هؤلاء “المجاهدين” الأفذاذ؟ إسماعيل هنيّة يشكر إيران على السلاح، ويطلب من العرب إعادة الإعمار! تماماً مثلما بنت المملكة لبنان بعد حرب عام 2006، ثمّ تبيّن، بحسب نصر الله، أنّه لم ينفع غير المال الطاهر!
وبالطبع، هذه الموجات العاطفية لن تُحوّل حماس إلى ممثّل رسمي للشعب الفلسطيني، ولكنّ السلطة الفلسطينية ما عادت قابلةً للحياة ولا قادرةً على التفاوض على الحقوق والدولة. وليس لأنّها لا تملك الكفاية الإدارية، بل ولأنّها أيضاً لا تملك ثقة الشعب الفلسطيني حتّى لو أظهرت الحرص الأكبر.
صار اتفاق أوسلو ذا سمعة سيّئة جداً، لكنّه عظيم إذا قورن بما هو الوضع عليه اليوم. وإسرائيل وأميركا هما المسؤولتان عن كلّ ذلك. وخلاصة الأمر أنّه ما دامت الظروف تبدو مهيّأة، فلا بد من التفكير في المستقبل القريب بالطرف الثالث كما يقال. ففي عزّ حركة فتح ومنظّمة التحرير ما كان الفريق الوطني الفلسطيني واحداً.
ما هو عمل الفريق الثالث؟
يعمل من ضمن القواسم المشتركة من دون تغييب لمنظمة التحرير الفلسطينية ذات الشرعية الدولية، والتي ينبغي أن تبقى هي المظلّة، ومع حضورٍ لحماس ولو في الحكومة أو المجلس. هل يستطيع جماعة أبو مازن، ما داموا لا يريدون الانتخابات، السماح لوجوه جديدة أن تتولّى التفاوض، كما ظهرت وجوه جديدة في أعمال المجتمع المدني والخدمات الإنسانية؟
إن سمحوا بذلك فإنّ العالم كلّه سيكون شديد الشكر لهم، فكيف بالشعب الفلسطيني؟! وإذا أمكن إراحة الشعب الفلسطيني لعامٍ أو عامين في الأقصى والقدس، ولجهة المستوطنات، فإنّ ذلك سيسهّل الوصول إلى الحلّ السياسي، شرط أن يستطيع الإسرائيليون أيضاً الخلاص من رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتانياهو ورهاناته وارتهاناته.
نسيتُ مَنْ ذكر “التحالف” غير المعلن بين حماس ونتانياهو، القائم على الإثارة المتبادلة، هل هو توماس فريدمان أم شلومو بن عامي أم مارتن إنديك!
وما ذكرنا بعد الجانب الأهمّ أو الأبرز في بعض السياقات، ونعني به الجانب العربي. وقد تقدّمت مصر صفوف العرب ليس لجهة المَونة على إسرائيل وحماس معاً، بل وباعتبارها الجهة التي قدّمت أكثر ما يكون لأهل غزّة: المساعدات الطبية والإنسانية، وفتح المعابر، والتبرّع بخمسمئة مليون دولار لإعادة الإعمار، وأوّلاً وآخِراً تنظيم وقف إطلاق النار. ومع مصر أدّى الأردنيون والقطريون والتونسيون أدواراً معتبرة. لكنْ هناك إجماعٌ عربي ودولي على جهود مصر ودور مصر والأردن والسعودية.
وهكذا لا بدّ الآن من فريق عربي فلسطيني مختلط بقيادة مصر لوضع خطّة والتواصل مع الولايات المتحدة بشأن إنفاذها. لكنّ الأميركيين أنفسهم يريدون أن يشاركهم الأوروبيون، والروس أيضاً هذه المرّة، فقد تغيّرت البلاد ومَنْ عليها أيّام أوباما وترامب. وتعدّد الحضور، وليس إسرائيل وأميركا فقط. حتّى أردوغان، وليس الخامنئي فقط، يريد تحرير القدس والأقصى!
فلسطين مشكلةٌ عالميةٌ، وقد كان المنطق الإسرائيلي خلال أكثر من عشر سنوات: إمّا أن تقبلوا بما نقدّمه أو نقاتلكم. ثمّ تبيّن أنّ الفلسطينيين جميعاً لا يقبلون، وأنّ الجيش الإسرائيلي لا يستطيع أن يقتل الجميع تحت أنظار العالم.
لقد قلتُ من قبل إنّ الإسرائيليين والأميركيين هم المسؤولون الرئيسون عن هذا الوضع المُزْري، لكن ماذا نقول عن العرب ودرجتهم في المسؤولية؟ ولماذا تملَّك الآخرون، ليس الملف الفلسطيني فقط، بل والملفّ السوري والعراقي واللبناني؟
إنّ لدينا فرصةً الآن، فلسطينيين وعرباً، للتدخّل البنّاء لحلحلة الجمود والتردّي، وفكّ الإسار بالتدريج عن الشعب الفلسطيني. وكلّما اقتربنا من حلّ الدولتين، أبعدنا فلسطين وغير فلسطين عن استغلالات إيران وتركيا وابتزازاتهما.
خلال أيام ينسى العالم آلام الثكالى في غزّة وغيرها، كما نسي نصف مليون قتيل سوري. لكن كما لا يريحنا بشّار الأسد فيتوارى، كذلك لن يريحنا نتانياهو وزبانيته، وعسكره سيتحرّشون من جديد بالمسجد الأقصى وبحيّ الشيخ جرّاح، وسيحاولون اختراع مستوطنات جديدة.
لا بدّ من حلّ الدولتين أو تتكرّر الحروب ويتجدّد القتلُ وخراب العمران والانتصارات الإلهية التي يبشّرنا بها إسماعيل هنيّة كما بشّرنا بها نصر الله من قبل..
ما أشبه الليلة بالبارحة!