“ليبانون ديبايت” – عبدالله قمح
بخلاف ما كان يرغب بعض “طالبي السوء” من وراء بعث الرئيس ميشال عون، رسالة “مكاشفة” إلى مجلس النواب تتناول عرقلة تأليف الحكومة، وبعيداً عن خطابات “الرّدح” التي عمّت أرجاء قصر الأونيسكو السبت، كان في ختام الأسبوع الطويل لرئيس الجمهورية ميشال عون ما أراد، ولرئيس مجلس النواب نبيه بري ما أراد، ولرئيس الحكومة المكلّف سعد الحريري ما أراد أيضاً. وبالنتيجة، خرج الجميع منتصرين!
في الأساس، أرادَ الرئيس عون، بعث الروح مجدّداً في مسار تأليف الحكومة من خلال حثّ مجلس النواب على أداء دوره، فكان أن راسله بكتاب مثّل عملياً خياراً مطروحاً منذ مدة، وكآخر احتمال يمكن اعتماده لـ”تحرير التكليف”. وقد تجلّى التعبير عن مضمون خطوة عون بين سطور خطاب رئيس “التيار الوطني الحر” النائب جبران باسيل، الذي ركن مجدّداً إلى خيار الغالبية، تجديد ثقتها بالحريري.
في المقابل، أرادَ رئيس مجلس النواب نبيه بري، تحويل الرسالة إلى دافع جدّي “يشحن” مسار التأليف بعناصر قوّة. عمل على التخفيف من مضمونها، واستخدام العُصارة في مسار إعادة لملمة الأمور الحكومية. بدوره، كان رئيس الحكومة المكلّف يبحث عن مظلّة في الداخل، تعوّضه عن المظلاّت الإقليمية والدولية التي خسرها، وتعيد تجديد الثقة به لاستئناف مسار التأليف، وكلّ همّه كان ألّا يظهر بموقع الضعيف أمام ثنائي “عون ـ باسيل”.
إذاً، هي نسخة متجدّدة من كتاب “لاغالب ولا مغلوب” دوّنت في المحضر السياسي. وبنتيجة الأسبوع الطويل، خرج الجميع “ربحانين” عبر آلية إنتاج جديدة يؤمل منها الوصول إلى تهدئة سياسية معقولة ومقبولة، وتعيد ترتيب أولويات التأليف.
في الواقع، الرئيس سعد الحريري يُعدّ أبرز الفائزين ممّا جرى. عملياً، تمكن من المحافظة على التكليف، بدليل أن أياً من الذين سمّوه لم يسحب الثقة منه. صحيح أن التكليف لا يمكن أن يُنزع بمجرد سحب الثقة من مانحها، لكن الحريري كان قد وضع سابقاً معياراً للإعتذار، ارتكز على المسار الأخلاقي. فلو أعلن الذين سمّوه (أو أكثريتهم) تخلّيهم عنه، لكان تخلّى عن التكليف بدوره. لكن النقيض حدث. يُمكن القول أن الرئيس الحريري، نال في جلسة السبت، تكليفاً متجدّداً، بدليل أنه حاز في نهايتها على “سكور” لم يبلغه خلال الإستشارات النيابية الملزمة عبر نيله لثقة أطراف لم تسمّه، بدليل إجماع الكتل النيابية على دعم مسيرة التأليف. واللافت كان انخراط كتلتي “التيار الوطني” و”القوات اللبنانية” ضمن المسار.
يُفترض الآن أن يستثمر الحريري ما جناه وكل الأجواء الإيجابية لصالحه، وهذا يُفترض أن يقود إلى رعاية تهدئة متبادلة ومتوازنة، تقابلها تهدئة مماثلة يُفترض أن تأتي من الجهة المقابلة، تبدأ بالخطاب والمواقف وتنسحب على تصحيح المسار، على قاعدة، أن الرّد على الرسالة أُنجزَ في مجلس النواب من قبل الحريري وانتهى الأمر. ثم يجب أن يدفع ذلك الحريري أيضاً، وفي حال صحّ أنه يريد التأليف، إلى قيادة خطوة جريئة أخرى عبر نزع الضغينة من نفسه تجاه بعبدا وتعبيد طريقه إليها في أقرب فرصة ممكنة، ما سيمكّنه من إعادة تزخيم مشاورات التأليف، لكن هذه المرة وفقاً لقواعد ترسخت خلال الجلسة: تأييد النواب للتأليف ومنهم العونيين، ورضوخ الحريري إلى مطلب الأكثرية باستمرار التكليف.
وهذا لا بد أن يقود عملياً إلى ترشيد خطاب الحريري أولاً، وتأمين ظروف تأليف مختلفة ثانياً، وفق “التخريجة” التي أرساها رئيس كتلة “الوفاء للمقاومة” محمد رعد خلال كلمته. رعد تحدث عن تنازلات متبادلة، وظروف التأليف اليوم وما نتج عن الجلسة يطالب بأكثر من ذلك: تأمين تنازلات متوازنة بين جناحي التأليف.
لكن هل يقود ذلك إلى تأليف حكومة في المدى المنظور؟
في الواقع، ثمة نسب متقاربة بين التشكيل من عدمه. فالحريري الذي فقد عملياً المبادرة الفرنسية نتيجة تخلي الفرنسيين عنها في شقها السياسي، ومضيهم نحو تأمين الدعم لأطراف اختاروها لخوض غمار الانتخابات النيابية المقبلة، يشير إلى نقل الفرنسيين تركيزهم إلى مكان آخر. وتأسيساً على نتائج جلسة مجلس النواب السبت وما نتجت عنها من إعادة تجديد للثقة بالحريري، يُمكن القول أن الرئيس المكلّف يتجه الآن للإستعاضة عن المبادرة الفرنسية بـ”مبادرة لبنانية” يتحرك من ضمنها لتأليف حكومة إنطلاقاً من قواعد لبنانية صرف: تأليف حكومة متوازنة.
ويجب في حال أُريد ترجمة النتائج إلى أمر واقع، أن تنسحب عنها تنازلات متوازنة، تقود الحريري إلى إعادة التموضع أولاً، وتليين موقفه حيال مثلاً تأليف حكومة تكنو – سياسية مع ضمّها اقتراح النائب السابق وليد جنبلاط، أن تكون مؤلفة من 24 وزيراً ثانياً، ثم تقود عون إلى التخلي عن نزعة “عدم التوقيع” التي تلوّح أوساطه بها دائماً ووضعها جانباً، ثم تليين مواقفه تجاه البحث بالمضامين الحكومية حين يدخل النقاش الجدي مسار التنفيذ، وعدم التشدّد كثيراً حيال بعض المسائل التقنية، والتي ثمة أكثر من باب لمعالجتها.
في المقابل، ثمة طرف لا يرى أي إمكانية لتأليف حكومة جديدة، لكون العوائق الأساسية التي تعدّ مسبّبة للعرقلة لم يتم تذليلها بعد. صحيح أنه يرى إيجابية سجلت خلال جلسة مناقشة “رسالة عون” تمثلت في نيل الحريري ما لم ينله خلال الإستشارات، وأخرى تظّهرت من خلال مواقف باسيل، التي يجب أن يُبنى عليها، لكن الصحيح ايضاً أن ثمة عوامل خارجية وداخلية أخرى لم تتبدل ولم يتم تذييلها.
ففي الواقع، إن الحكومة العتيدة، وبحسب تقويم الروزنامة السياسية، يجب أن تستمر لغاية شهر أيار المقبل موعد الإنتخابات النيابية، أي عملياً أقل من عام. وحيث أن التأليف لم يتوفر بعد ويمكن أن يحصل ـ إذا صفينا النية – خلال شهر مثلاً، يعني عملياً أن ما بقي من المهلة هو 11 شهراً، سيذهب جزء منها عند انتصافها لانصراف الكتل السياسية في التحضير للإستحقاق، أي عملياً ما بقي لا يغدو أكثر من 6 أشهر، فهل تكفي هذه المدة لإنجاز ما تقدم من إقتراحات إصلاح ومعالجة واستقدام مساعدات وكبح إنهيار وإعادة الثقة إلى الليرة وضبط الدولار وإنعاش الإقتصاد؟
في الخلاصة، الحكومة بعيدة طالما أن العوائق الخارجية ما زالت متوفرة وتمثل عقداً فعلية.