الأخبار- يحيى دبوق
على أن الفارق بين الاتفاق الملزِم بإرادة الطرفين، و»اتفاق الخضوع»، هو أن الطرف المذعن في الحالة الثانية لا يستمرّ في التزامه إن رُفعت عنه الضرورات التي دفعته إلى الالتزام بما لا يريد، وذلك ما حرصت إسرائيل على التشديد عليه عبر خطوة وقف إطلاق النار من جانب واحد. إلّا أنه ميدانياً، يُفترض أن تلتزم بما فُرض عليها، أي كفّ اليد عن القدس، وتحديداً في ما يتعلّق بتهجير المقدسيين ومصادرة دورهم السكنية، مع الإشارة إلى أن الانكفاء الإسرائيلي جاء نتيجة تجميد الاعتداءات لا إلغائها، والفروق كبيرة جداً بين الحالتين. هي إذاً معادلة غير ثابتة إلّا بناءً على ثبات عواملها وأسبابها، وتحديداً استمرار فصائل المقاومة في غزة في وضع يدها على الزناد والتوثّب للردّ على اعتداءات إسرائيل في القدس. وهذا المعطى، بمعنى العامل المُسبّب لنشوء المعادلة الجديدة، سيكون حاضراً دائماً على طاولة القرار في تل أبيب، مع بروز أيّ نية أو توجّه لاستئناف القرارات العدائية، في تحسّب من شأنه التحوّل إلى معادلة كاملة وراسخة، إن أحسن الجانب الغزّي استثماره.
بكلمات أخرى، هو نوع من الردع والارتداع، فُرض فرضاً على إسرائيل عبر القوة العسكرية والخشية من تسبّب سلّة إجراءات جديدة في القدس باستئناف استخدام الفلسطينيين القوة من جديد. وهنا مكمن ضعف تلك المعادلة في سياق قوّتها، كونها سيّالة جدّاً وصعبة القياس. فالانكفاء عمّا يتسبّب بنشوب جولة قتالية جديدة هو عامل رادع للطرفين؛ فلا إسرائيل معنيّة بهذه المواجهة أو التسبُّب بها، ولا الفصائل في غزة معنيّة بذلك، أي أن الطرفين يدركان أن حدوداً ما تمنع كلّاً منهما وتردعه، ليس في ما يتعلّق بإسرائيل التي ستكون معنيّة بالإحجام عن أيّ اعتداءات صاخبة في القدس فقط، بل أيضاً بالنسبة إلى الفلسطينيين المعنيّين من جهتهم بأن تكون ردودهم مضبوطة.
من هنا، يمكن التقدير أن نتيجة الجولة القتالية الأخيرة قد لا تكون الأخيرة فعلاً، وأن الميدان قد يكون مرشّحاً للمزيد من الجولات، سواء باتجاه ترسيخ المعادلة الناشئة، أو باتجاه كسرها. وتلك ستكون مهمّة الجانبين. وبالنظر إلى أن حدود معادلة «غزة ــــ القدس» مشوَّشة وغير واضحة بشكل كامل، فسيكون كلّ طرف، وهنا الإسرائيلي أكثر، معنيّاً بفحص هذه الحدود، والبحث في الحدّ الذي يُعدّ من جانب الفلسطينيين خطّاً أحمر، يُلزمهم بالردّ عسكرياً، فيما على الفلسطينيين إيضاح هذا الخطّ مسبقاً، وتأكيد إرادة التحرّك، إن لزم، لمنع تجاوزه إسرائيلياً.
في السياق نفسه، وفي ما يُمثّل مكمناً آخر من مكامن خطورة التسبّب بنشوب مواجهة، تبرز إمكانية تقدير إسرائيل اللاحق لأيّ ظرف مستجدّ ضاغط، من شأنه، وفق رؤيتها، أن يردع الجانب الفلسطيني عن الردّ، في حال قرّرت هي معاودة الاعتداء الصارخ في القدس. قد ترى تل أبيب، مثلاً، في متغيّر ما يطرأ على غزة، داخلي أو خارجي أو بيني، رادعاً لحركة «حماس» والفصائل الأخرى، وحائلاً دون تفعيل القوة، أو في حدّ أدنى دون تفعيلها بشكل كامل ومؤذٍ، وهنا لن تتردّد تل أبيب في التملّص من إذعانها لالتزامها القسري في القدس. والجدير ذكره، هنا، أن الساحة اللبنانية شهدت عيّنات لسوء تقديرات إسرائيلية من هذا النوع، دفعت الكيان إلى المعاينة العملية لإمكانات خرق معادلة الردع مع «حزب الله»، وذلك عبر اعتداءات «مدروسة»، مبنيّة على قراءة مغلوطة بأن متغيّراً أو متغيّرات طرأت على الساحة اللبنانية أو ما يرتبط بها، من شأنها ردع «حزب الله» عن الردّ على اعتداءاتها. لكن الفهم العميق والالتزام الحاسم لدى قيادة «حزب الله» بالردّ، وفقاً لقناعة راسخة عنده بأن التبعات السلبية للردّ مهما عظمت، لا تقارَن بالتبعات السلبية لـ»اللاردّ» أو الردّ الشكلي، أوجبت عليه الردّ تناسبياً، وهو ما لجم إسرائيل عن مواصلة اعتداءاتها، وأحبط نيّتها كسر المعادلات.
بالنتيجة، معادلة «غزة ــــ القدس» قائمة على حدّ السيف. إسرائيل معنيّة، من دون أدنى شكّ، بخرقها، وهي ستعمل على استغلال أيّ فرصة تُتاح لها كي تخرقها، بل وعلى إيجاد الظروف التي تتيح لها خرقها، فيما على الجانب الفلسطيني الغزّي التيقّظ والاستعداد العسكري، وقبلهما الإرادة الحاسمة في الردّ على الاعتداءات. لا يعني ما تَقدّم أن الردّ ضروري وواجب على أيّ خرق في القدس، لكنه لا يعني أيضاً أن كلّ خرق يمكن التغاضي عنه. كذلك، وهنا تَكمن صعوبة تقدير الآتي، فإن خرق المعادلة من طرفَيها أو أحدهما، مع الردّ الذي يلجم المُضيّ قُدُماً في الخرق، لا يعني بالضرورة استئناف القتال أو جولات قتالية جديدة.