انشغل الرأي العام اللبناني مؤخرًا في التجاذب الحاصل في قضية تهريب الأموال إلى الخارج وما استتبعها من أحداث قضائية كان أبرزها قرار كفّ يد النائب العام الاستئنافي في جبل لبنان غادة عون عن هذه القضية وعدد من القضايا الأخرى الهامّة والذي اتّخذه النائب العام التمييزي غسّان عويدات. وقد انقسم الرأي العام حول هذه القضية بعدما تابعت القاضية عون عملها رافضة الإذعان للقرار بكفّ يدها: ففيما وجه البعض أصابع الاتهام إليها معتبرين أنّها تمرّدت على القانون، رأى البعض الآخر (ومنهم المفكرة القانونية ولجنة الحقوقيين الدوليين) أن كفّ يدها من قبل القاضي عويدات على هذا الوجه إنما يشكل عرقلة لعمل القضاء. وفي خضمّ هذا النقاش الذي لم ينتهِ تماما، تقدّمت عون في 27/4/2021 بدعوى أمام مجلس شورى الدولة ترمي إلى وقف تنفيذ القرار تمهيدا لإبطاله لعلّة تجاوز القاضي عويدات حدّ السلطة ومخالفته قواعد الصلاحية.
وعليه، اكتستْ هذه الدعوى أهمّية كبيرة تتجاوز مسألة تهريب الأموال أو مسألة الخصومة بين عون وعويدات وتفرعاتها، لتشمل مسألة تنظيم النيابات العامة كافة وحدود السّلطة الهرميّة التي يمارسها النائب العام التمييزي على النيابات العامة وانعكاساتها السلبية على حقوق المجتمع عامة، والتي ما فتئت “المفكرة القانونية” تحذّر من مخاطرها.
وإذ كان ينتظر تاليا من مجلس القضايا لدى مجلس شورى الدولة اتخاذ قرار بشأن وقف تنفيذ القرار المطعون فيه ضمن مهلة أسبوعين من ورود جواب الدولة إليه، فإن هذا المجلس انتهى بتاريخ 17/5/2021 إلى إصدار قرار غير مألوف يعكس في عمقه عجز أعضائه عن بتّ القضية في وجهة معينة. هذا القرار تمثل في ضمّ طلب وقف التنفيذ إلى الأساس، إضافةً إلى استدعاء مجلس القضاء الأعلى لتَبيان رأيه في القرار المطعون فيه وعمليا لتحمّل مسؤولياته في هذا الخصوص.
وللإحاطة بمعنى هذا القرار وأبعاده، يجدر الإجابة على 3 أسئلة: (1) ماذا يعني أن ينظر في القضية مجلس القضايا وليس الغرف في مجلس شورى الدولة؟ و(2) ماذا يعني ضم طلب وقف التنفيذ إلى أساس الدعوى؟ و(3) ماذا يعني استدعاء مجلس القضاء الأعلى لإبداء الرأي وتحمّل المسؤولية في هذه القضية؟
ماذا تعني إحالة القضية إلى مجلس القضايا؟
فور تقديم القضية لدى مجلس شورى الدولة، تم إحالتها إلى مجلس القضايا وهو المجلس المختصّ في النظر في دعاوى القضاة وفق المادة 44 من نظام مجلس شورى الدولة. وبذلك تكون القضية شقّت منذ بدايتها طريقا مختلفا عن الطريق العادي للمراجعات الإدارية، بحيث لم تتولّ النظر فيها إحدى غرف المجلس إنما مجلس القضايا المكوّن من رؤساء هذه الغرف بالإضافة إلى 3 مستشارين يعينهم رئيس مجلس شورى الدولة. ومن شأن اعتماد هذا الطريق غير العادي أن يفسّر إلى حدّ ما القرار غير المألوف الصادر عن المجلس.
فإلى جانب أن هذا المجلس يمثل مبدئيّا المرجعيّة العليا في مجلس شورى الدولة في البت في القضايا الهامة أو في توحيد اجتهادات الغرف، فإن اجتماع جميع رؤساء غرف المجلس فيه (وهم معينون بموجب مراسيم صادرة عن السلطة التنفيذية وفق الكوتا الطائفية وغالبا المحاصصة السياسية) إنما يفتح بابا واسعا أمام التجاذب داخله وهو تجاذب غالبا ما يعكس التجاذب بين القوى السياسية وبخاصة في القضايا التي تشهد تجاذبا واسعا وحادّا كما في قضية تهريب الأموال إلى الخارج. وما زاد من احتمال التجاذبات هو تسرّب شائعات بحصول تدخلات سياسية ودينية واسعة من أطراف عدّة في اتجاه التأثير على آراء أعضاء هذا المجلس.
ويشار أيضا إلى أن إحدى أعضاء المجلس هي القاضية فاطمة الصايغ عويدات، وهي متأهلة من أحد أقارب عويدات، والتي لم يطلب أحد تنحيتها كما لم تعرض تلقائيا ذلك.
ماذا يعني ضمّ طلب وقف تنفيذ قرار عويدات للأساس؟
كما سبق بيانه في المقدمة، لم يبتّ مجلس القضايا طلب وقف تنفيذ القرار المطعون فيه كما يفترض به وفق نظام مجلس شورى الدولة، إنّما اكتفى بضمّه إلى الأساس. فكأنما المجلس قرّر ألّا يقرر أو أنه وجد نفسه أمام عجز فعلي عن حسم المسألة. وهذا الأمر يستدعي عددا من الملاحظات:
إن القرار الصادر إنما يشكل مخالفة للقانون الذي يلزم المجلس بالبتّ بطلبات التنفيذ خلال مهلة أسبوعين (المادة 77 من نظام مجلس شورى الدولة)، وهي مخالفة تقارب استنكاف المجلس عن إحقاق الحق. وهو يشكّل إلى ذلك بدعةً حيث لم يسبق لأي من هيئات مجلس شورى الدولة على حدّ علمنا أن اتّخذت قرارًا مماثلًا له. ولا يردّ على ذلك بأن الانقسام بين أعضاء المجلس قد وضعه أمام ضرورة إيجاد تسوية ما، فمن المعلوم أن الهيئات القضائية تحسم الانقسام بين أعضائها بالأكثرية على أن يكون للأقلية التعبير عن آرائها المخالفة، وليس بتسوية. وهذا ما كان متاحا في مجلس القضايا طالما أن عدد الأعضاء المشاركين في هيئة الحكم هو مفرد (7) وأنه يكون في مطلق الأحوال لرئيسه صوت مرجح. أما وأن المجلس قرر ألّا يقرر، فهو بذلك ذهب مذهب الهيئات السياسية (وليس القضائية) والتي تنهي خلافاتها بتسويات سياسية وليس بأحكام. وما يزيد من قابلية هذا التوجه للانتقاد هو أن التسوية التي توصّل إليها المجلس غير قانونية حيث كان يتوجب عليه أن يبتّ بالطلب كما أسلفنا، فضلا عن أنه اكتفى بقرار ضمّ الطلب إلى الأساس من دون أي تبرير.
أن هذه البدعة (ضم طلب وقف التنفيذ إلى الأساس) تتّسم بخطورة كبيرة حيث يُخشى أن تتحول إلى سابقة تلجأ إليها هيئات مجلس شورى الدولة بما فيها غرفه كلما استشعرت حرجا حيال المتقاضين أو لم تشأْ اتخاذ قرار لصالح أحدهم ضد آخر. ولعل أسوأ ما في هذه السابقة في حال اعتمادها من هيئات أخرى هو أنها قد تهدّد الطريق الوحيد المتاح حاليا للمتقاضين في النزاعات الإدارية للحصول على قرارات مستعجلة نسبيا. فمن المعلوم أن نظام مجلس شورى الدولة يخلو حتى اليوم من أي أصول مستعجلة أخرى سواء لإبطال القرارات الإدارية أو وقف تنفيذها.
ماذا يعني استدعاء مجلس القضاء الأعلى لإبداء رأيه ومواقفه في هذه القضية؟
إلى ذلك، قرر مجلس القضايا كما سبق بيانه تكليف مجلس القضاء الأعلى بتبيان موقفه من النزاع الراهن والمسائل القانونية المثارة والقرارات المتخذة منه في هذا المجال خلال مهلة عشرة أيام، مستندا إلى المادة 4 من قانون تنظيم القضاء العدلي التي تنص على أن هذا الأخير يسهر “على حسن سير القضاء وعلى كرامته واستقلاله وحسن سير العمل في المحاكم ويتخذ القرارات اللازمة بهذا الشأن.” وقد علّل المجلس هذا القرار بحجج عدة أهمها “أن مجلس القضاء الأعلى هو المرجع الأعلى في سلطة القضاء العدلي المستقلة في تسيير أمورها بموجب أحكام الدستور والنصوص القانونية ذات الصلة”. وأنه يقتضي تاليا “الاطلاع على موقفه من النزاع الراهن والتدابير التي اتخذها بهذا الشأن لحسن سير القضاء” ولا سيما في ظلّ “خلوّ (الملف) من أي موقف قانوني لمجلس القضاء الأعلى بخصوص النزاع الحاضر.”
وبالإمكان تفسير هذه الإحالة باعتبارات عدة أهمها الآتيّة:
أنّ مجلس القضايا أعلن تمسّكه بأحقية مجلس القضاء الأعلى في إبداء الرأي في هذا الخصوص سندا للمادة 4 من قانون تنظيم القضاء العدلي التي تولي هذا الأخير مسؤولية السهر على استقلال القضاء وحسن سيره. وهو بذلك بدا وكأنه يصوّب ما ذهبتْ إليه هيئة القضايا التي حصرت الإدارات المعنية بالنزاع بوزارة العدل والنيابة العامة التمييزية مع استبعاد مجلس القضاء الأعلى،
أن مجلس القضايا لم يكتفِ باستطلاع رأي مجلس القضاء الأعلى إنّما طلب منه إعلامه بالإجراءات التي صدرت عنه في هذا الخصوص تبعاً لمسؤولياته المشار إليها أعلاه. وهو بذلك بدا وكأنّه لا يستطلع رأيه وحسب، إنّما يضعه أيضا أمام مسؤولياته في هذا الخصوص تمهيدا لرمي “كرة النار” في ملعبه. وما يعزّز هذا القول هو ما ذهب إليه القرار لجهة إعلاء شأن مجلس القضاء الأعلى وتضخيمه. فقد تم اعتباره “المرجع الأعلى في سلطة القضاء العدلي المستقلة في تسيير أمورها بموجب أحكام الدستور والنصوص القانونية”، في حين أن الدستور لم يأتِ على ذكر مجلس القضاء الأعلى كما أنه ليس هنالك أي نص قانوني من أي نوع كان يجعله المرجع الأعلى في سلطة القضاء العدلي. وهذا الأمر الذي أتى بمعية تجنب مجلس القضايا تحمل مسؤولياته في بت طلب وقف التنفيذ، إنما يضعنا أمام فرضيّة جدّية قوامها أن مجلس القضايا سعى من خلال إحالة الملف إلى مجلس القضاء الأعلى إلى رمي كرة النار إليه ودعوته لإيجاد حل للنزاع المطروح بمنأى عنه.
ما يزيد من قابلية قرار مجلس القضايا للانتقاد هو أن ولاية 7 من أعضاء مجلس القضاء الأعلى ال 10 تنتهي خلال الأيام القليلة المقبلة مما سيؤدي عمليا إلى تعطيله وأننا سنكون على الأرجح أمام صعوبات كبرى لملء هذه المراكز الشاغرة بالنظر إلى الانقسام السياسي الحادّ الحاصل حاليًا. وأول المؤشرات على ذلك هو ما حصل في 18 أيار في محكمة التمييز، حيث لم يتمكن أعضاء المحكمة من انتخاب إلا انتخاب عضو واحد لمجلس القضاء الأعلى في حين أن القانون يفرض عليهم انتخاب عضوين من رؤساء غرف محكمة التمييز. أما ملء المراكز الخمسة الأخرى فسيكون على الأرجح أكثر صعوبة طالما أنه يتطلب صدور مرسوم بناء على اقتراح وزيرة العدل وموافقة رئيسيْ الحكومة والجمهورية. من هذه الزاوية، يكون مجلس القضايا قد أحال القضية إلى مجلس القضاء الأعلى مع علمه المسبق والأكيد باحتمال أنّ المجلس سيكون بحكم المعطّل خلال أيام. وكأنما نأي مجلس القضايا نفسه عن بتّ القضية ترافق مع قذف القضية في أحضان هيئة أخرى (مجلس القضاء الأعلى) يعرف سلفا أنها ستتعطّل خلال أيام، بما يترك المجال كل المجال مفتوحا لتحكّم المساومات السياسية في هذه القضية الحقوقية بالغة الأهمية، مساومات لن يكون فيها أي محلّ للقضاء أو بشكل أعم للقانون.