قدرة اللوبي الصهيوني على عرقلة الاتفاق النووي باتت ضعيفة
 انتفاضة فلسطين كشفت خواء حجج المُطبّعين

يُعدّ من بين الإنجازات البارزة لانتفاضة الحجارة والصواريخ في فلسطين، تحطيم صدقية السردية الصهيونية عن حقيقة الصراع الدائر منذ قرن في فلسطين، في داخل الولايات المتحدة. ارتكز التحالف الأميركي – الصهيوني إلى تماهٍ ثقافي – أيديولوجي بين نخب البلدين السياسية والفكرية والإعلامية في العقود الماضية، وهو ما جعله يرتقي من مستوى التحالف الاستراتيجي إلى ذلك العضوي. لقد أسهمت عوامل كثيرة في تغيير هذا الواقع، خاصة موقف الأجيال الشابة من كيان التطهير العرقي والاستيطان، لكن معركة فلسطين الحالية سرّعت مسار التغيير، وأفضت بنظر رشيد الخالدي إلى «انهيار جدار الأكاذيب الإسرائيلي». للخالدي، الحائز «كرسيّ إدوارد سعيد للدراسات العربية المعاصرة» في جامعة كولومبيا، ومدير «مجلّة الدراسات الفلسطينية» في الولايات المتحدة، مجموعة من الكتب المرجعية عن القضية الفلسطينية والسياسة الأميركية، وآخرها «حرب المئة عام على فلسطين. الاستعمار الاستيطاني والمقاومة»

على الرغم من تكرار المسؤولين الأميركيين في تصريحاتهم حول المواجهة الدائرة على امتداد فلسطين المحتلة، وفي مقدّمتهم الرئيس جو بايدن، الثوابت الأميركية المعروفة عن دعم إسرائيل و»حقها في الدفاع عن النفس»، فإن معطيات عديدة تؤشّر إلى تباين متزايد بين قيادتَي الطرفين حول كيفية إدارة الصراع من قِبَل حكومة بنيامين نتنياهو. رشيد الخالدي يرى أن «إدارة بايدن، والأخير شخصياً، من أشدّ المدافعين عن إسرائيل في الماضي. لكن الضغط الهائل من الرأي العام والشباب ووسائل الإعلام، ومن داخل الحزب الديموقراطي، وأنا هنا لا أتحدّث فقط عن الجناح اليساري المُمثَّل برشيدة طليب وإلهان عمر وألكسندرا أوكتافيو أورتيز وحتى برني ساندرز، المعروف بمواقفه المؤيّدة للقضية الفلسطينية، بل أقصد أيضاً شخصيات وسطية في هذا الحزب كانت مدافعة متحمّسة عن إسرائيل وأُجبرت نتيجة لضغوط من قاعدة الحزب على تغيير مواقفها… هذا الضغط فرض على الإدارة تغييراً تدريجياً وبطيئاً جدّاً في موقفها من المعركة الحالية. في الأسبوع الأول، ساندت الإدارة العدوان الإسرائيلي، ومنعت مجلس الأمن من اتّخاذ أيّ قرار بشأنه، لكن مقاربتهم اختلفت الآن بسبب الضغوط التي أشرت إليها، وكذلك بفعل تغيّر السردية الإعلامية حول ما يجري. هذا التطوّر لا مثيل له في التاريخ الأميركي. إذا راجعنا مواقف الولايات المتحدة من قضية فلسطين منذ أيام الرئيس ويلسون إلى اليوم، فلن نجد كتلة مهمّة في أيّ حزب رئيس مؤيّدة لفلسطين أو للحقوق الدنيا لشعبها، ونقدية للسياسة الإسرائيلية. نحن أمام واقع مستجدّ، وهو غير مرتبط بوجود آراء مختلفة داخل الإدارة حول فلسطين. طبعاً، هذه الإدارة كانت تُفضّل أن تُركّز أوّلاً على الأزمات الداخلية، السياسية والصحّية والاقتصادية، وثانياً أن تتفرّغ للصراع و/أو التفاوض مع الصين وروسيا وإيران. هي كانت تُفضّل ألّا تكون القضية الفلسطينية على جدول الأعمال، والدليل على ذلك إرسال نائب مساعد وزير إلى المنطقة، أي مسؤول من مرتبة ثانوية. لكن تعنّت نتنياهو من جهة، وقدرة حماس على الردّ المستمرّ على الهجمات الإسرائيلية حملا الإدارة رغماً عنها على التكيّف مع وضع غير مستقرّ، ويهدّد بإشغالها عن أهدافها الأخرى. هي وجدت نفسها في مقابل تحوّلات فلسطينية وعربية، وكذلك على مستوى الرأي العام العالمي والأميركي، وفي ساحتها السياسية الداخلية. أقطاب الإدارة من بايدن إلى وزير الخارجية أنتوني بلينكن، مروراً بنائبة الرئيس كمالا هاريس، وصولاً إلى الناطقة باسم الكونغرس نانسي بيلوسي، وشاك تشومر رئيس الأقلّية الديموقراطية في مجلس الشيوخ، لم يتراجعوا عن مواقفهم المنحازة تماماً إلى إسرائيل، وهم لا يعيرون أيّ أهمّية للحقوق الفلسطينية، لكن ما تَغيّر هو الوضع الداخلي في أميركا».

ينعكس هذا التغيّر بوضوح في تعامل الإعلام الأميركي حالياً مع التطوّرات في فلسطين. «لقد نجحت إسرائيل والحركة الصهيونية في تشييد جدار من الأكاذيب لحماية مشروعها الاستيطاني من أيّ نقد يُوجَّه إليه من السياسيين ومن وسائل الإعلام، وفي فرض جملة من المفاهيم والمصطلحات عند التطرّق إلى ما يجري في فلسطين، كالإرهاب وحق إسرائيل في حماية نفسها وغيرهما. اختُرق هذا الجدار أكثر من مرّة في الفترات التي احتدم فيها الصراع، خلال اجتياح لبنان في 1982، ومذابح صبرا وشاتيلا أو خلال الانتفاضة الأولى، أو عدوان 2014 على غزة، لكن إسرائيل تمكّنت من إعادة ترميمه في كلّ مرّة، غير أن ما يتمّ الآن هو تحوّل جذري، لأن ما بات يخضع للنقاش والنقد هو أسس المشروع الصهيوني، التي تفسّر السياسات التي يعتمدها. التطهير العرقي في الشيخ جراح أضحى تحت المجهر، واتّضح أن سكّانه قد طُردوا من ديارهم في يافا وحيفا في 1948، ومُنعوا من العودة إليها منذ هذا التاريخ، وهم مهدَّدون بأن يتعرّضوا للأمر نفسه مجدّداً. الهجمات على المسجد الأقصى كان لها الأثر نفسه، بمعنى أنها سمحت لقطاعات معتبَرة من الرأي العام بإدراك الخلفيات العنصرية والاستعمارية للسياسات المتّبعة من قِبَل إسرائيل ضدّ الشعب الفلسطيني. مدير مكتب نيويورك تايمز الجديد في القدس، باتريك كنغزلي، كتب مقالاً في صفحتها الأولى من 30 فقرة، فنّد في كلّ واحدة منها أكذوبة إسرائيلية حول القدس وأوضاعها، من المواجهات في الأقصى، إلى معركة الشيخ جراح، مروراً بالمسيرات العنصرية للمستوطنين، والتي هاجمت الأحياء العربية. انهار جدار الأكاذيب أمام ما جرى، وأمام تغيّر رأي وسائل الإعلام به. لم تَعُد هذه الأخيرة تتردّد في دعوة شخصيات أكاديمية أو سياسية أو إعلامية كانت بحكم المقاطَعة في مراحل سابقة، لتحليل التطوّرات والتعليق عليها. قنوات مثل أن.بي.سي أو سي.أن.أن أصبحت تستضيف نورا عريقات ويوسف منير، الذي نُشر له مقال في نيويورك تايمز اليوم. وقد طلبت مني الواشنطن بوست أن أكتب مقالاً عن المواجهة الراهنة. لم أرَ مثيلاً لما يحدث اليوم في أيّ فترة سابقة، بما فيها تلك التي حصلت فيها اختراقات جزئية لجدار الأكاذيب الإسرائيلية».
ولكن، هل انهيار جدار الأكاذيب يؤثّر على سياسة إدارة بايدن الخارجية؟ «بطبيعة الحال. هي لا تستطيع تجاهل هذا التحول. الجيل الصاعد لا يقرأ نيويورك تايمز ولا يشاهد سي.أن.أن، ويتابع الأخبار عبر وسائل التواصل الاجتماعي، كيوتيوب وتيك توك وإنستاغرام وفايسبوك، فيشاهدون مثلاً مباشرة ما يجري في المسجد الأقصى وفي أحياء القدس. جميعهم رأوا السجال الذي بُثّ على يوتيوب بين المرأة الفلسطينية والمستوطن الذي استولى على بيتها في حي الشيخ جراح، حيث أجابها عندما سألته لماذا يسرق بيتها بأنه إن لم يفعل، فإن غيره سيقوم بذلك. المسألة في الأصل هي إذن سرقة حقوق الفلسطينيين وبيوتهم. هذا الواقع لديه أثر كبير على الحزب الديموقراطي، لأن الشباب والأقلّيات يشكّلون قسماً أساسياً من قاعدته».
يعتقد رشيد الخالدي أن تداعيات المواجهة في فلسطين على السياسة الأميركية في الإقليم لن تكون في مصلحة إسرائيل، خاصة بالنسبة إلى المفاوضات حول الملفّ النووي مع إيران. «الكثير من المعلّقين يجزمون بأن سماح بايدن لنتنياهو بتصعيد حربه على غزة سيُعزّز موقف الإدارة بالنسبة إلى موضوع التفاوض مع إيران. سيقول الأميركيون للإسرائيليين لقد سمحنا لكم بالذهاب بحربكم إلى حدود قصوى، فلا تحاولوا عرقلة مفاوضاتنا. نقطة أخرى لا بدّ من الالتفات إليها، وهي انقلاب الموقف من نتنياهو في الولايات المتحدة، والناجم عن حرب التدمير الإجرامية التي يشنّها على غزة. اعتراضاته على الاتفاق المحتمل مع إيران لن تلاقي الكثير من الآذان الصاغية في أميركا. هو فقدَ صدقيّته بدرجة كبيرة. عامل إضافي ينبغي أخذه في الحسبان عند تحليل المشهد الإجمالي في الإقليم، هو بداية الانفراج في العلاقات بين إيران وكلّ من السعودية والإمارات، وكذلك بين تركيا وهاتين الدولتين إضافة إلى مصر. هذا الانفراج يُغيّر البيئة الاستراتيجية التي يأتي الاتفاق النووي مع إيران في إطارها، وهو سيسمح بتسهيل التفاهمات بين إيران والولايات المتحدة. قد يغامر الإسرائيليون بفعل مفاجئ لتخريب مثل هذه التفاهمات، لكن ذلك لا يلغي الواقع المهمّ الناشئ عن جميع العوامل التي ذُكرت».
ما هو مآل التحالف بين بعض الأنظمة العربية وإسرائيل، تحت مسمّى التطبيع، بعدما أثبتت الانتفاضة الشاملة والمتعدّدة الأوجه، على امتداد فلسطين، مركزية الأخيرة كقضية في وجدان شعوب الأمة؟ «الأنظمة التي تحالفت مع إسرائيل، كالنظام الإماراتي مثلاً، والتي بحكم طبيعتها غير الديموقراطية لا تقيم وزناً لموقف شعوبها، صدّقت الأطروحة الإسرائيلية – الأميركية عن نهاية القضية الفلسطينية، وأن الشعب الفلسطيني لم تَعُد له أهمية تُذكر بالنسبة إلى بقية الشعوب العربية. لقد أثبتت تطوّرات الشهر الأخير أن قضية فلسطين هي القضية الرئيسة للأمة العربية والإسلامية. هي برهنت على وحدة الشعب الفلسطيني التي لا مثيل لها منذ عشرات السنين، وأن الشعوب العربية تقف بغالبيتها العظمى بحزم مع الشعب الفلسطيني. لقد ثَبت خواء كلّ الحجج التي استند إليها مسار التطبيع – التحالف»، يختم الخالدي.

المفكّر الفلسطيني