مع إعلان وقف إطلاق النار من دون اتفاق كامل، بين قطاع غزة والعدو، لا يبعد الميدان كثيراً عن إمكانية تجدّد التصعيد. فالتفاوض عبر النار بين الجانبين لم يكن ليصل تأثيره إلى حدّ إبرام اتفاق كامل والإقرار بنتائج المواجهة، وإن كان جزء منها مُتحقّقاً من دون اتفاق، فيما جزء آخر يحتاج إليه، وهو ما يزيد من ضبابية اليوم الذي يلي، ويُرجّح احتمال استئناف القتال لاحقاً، وفقاً لتموضعات الطرفين وتوثّبهما القتالي في حينه، لتحقيق ما تعذّر تحقيقه الآن، أو لمواجهة تراجع الطرف الآخر عن التزاماته، أو ما يُتوقّع منه.
ما بين مطالب غزة، وتحديداً في ما يتعلّق بالقدس، وتعنّت إسرائيل في رفض التلبية العلنية لها، وربّما غير العلنية أيضاً كما يبدو، تشير أرجح التقديرات الى أن المعركة ستتواصل لاحقاً بعد وقف إطلاق النار، لكن عبر أدوات ووسائل قتالية غير عسكرية. من ناحية إسرائيل، ستسعى إلى إفهام الفلسطينيين أن نتيجة القتال العسكري لا تؤثّر في قراراتها وأهدافها الموضوعة للقدس والحرم القدسي، سواءً تراجعت عملياً عن هذه الإجراءات أم ليّنت من قساوتها على المقدسيين. ومن ناحية فصائل المقاومة في غزة، ستكون معنيّة بتظهير جاهزيتها لمعاودة القتال، إن عاودت إسرائيل اعتداءاتها في القدس. المعادلة هنا غير مكتملة، وتخضع لاحقاً، في محدّداتها، لظروف الطرفين ومحفّزاتهما، كما تتحدّد وفقاً للمتغيّرات المقبلة، وما إن كانت للمواجهة الحالية نفسها، بمعنى نتائجها المادّية وغير المادّية في وعي صاحب القرار، في تل أبيب كما في غزة، دور رئيس في تحديد واقع اليوم الذي يلي، وقواعد اشتباكه.
يعني ذلك أن استئناف المواجهة لاحقاً سيكون فرضية دائمة ومطروحة بقوة على طاولة القرار في تل أبيب، إن قرّرت الأخيرة مواصلة اعتداءاتها على المقدسيين ومعاودة العمل على سلبهم حقوقهم، علماً بأن سلب الحق الفلسطيني واحدة من استراتيجيات إسرائيل التي يصعب أن تتخلّى عنها. لكن الافتراض الدائم لدى تل أبيب أن إجراءاتها ضدّ المقدسيين قد تستدعي ردّ فعل عسكرياً من غزة، يؤثّر بطبيعة الحال في قراراتها، وإن كانت معنيّة في المرحلة المقبلة بأن تُفهم القطاع أنها لا تولي هذه المعادلة أهمية حاسمة. هنا، يكمن الشيء ونقيضه بالنسبة إلى إسرائيل، ما يُصعّب المهمة عليها: فهي ترفض الرضوخ لمعادلة «غزة – القدس»، لكنها في الوقت نفسه مضطرة للخضوع لها وإن مع عدم الإقرار بها.
بطبيعة الحال، نتيجة القتال ستؤثّر في حدّة الحصار على قطاع غزة، حيث من المرجّح أن يتوصّل الطرفان، عبر الوسطاء والأطراف الثالثة، إلى تليين الحصار وخرقه في أكثر من اتجاه. ذلك أن الأذيّة التي لحقت بإسرائيل في هذه الجولة، والتي كانت مرشّحة للتضاعف لو تواصلت المعركة، إضافة إلى مطالبة الفصائل بما يزيد في مستواه عن حصار غزة، والمقصود هنا القدس، كلّها عوامل ستُمكّن الفلسطينيين من انتزاع قرارات قد تكون ملحوظة إزاء الحصار وشدّته. وما حديث القاهرة عن مساعدة تصل إلى نصف مليار دولار لغزة، سواء تحقّقت بالفعل أم لم تتحقّق، إلّا إشارة إلى أن إغراء القطاع بالفائدة الاقتصادية سيكون جزءاً من الوسائل القتالية غير العسكرية، لدفع الفصائل إلى التراجع عن معادلة «غزة – القدس»، كما كانت تريدها، حاسمة وكاملة ومكتوبة في متن اتفاق وقف إطلاق النار، وهو ما سُمّي شرط «ضمانات» بالتزام إسرائيل بالتراجع عن إجراءاتها في القدس، أو العودة إليها لاحقاً.
بالنتيجة، أُنجز التفاهم على وقف إطلاق النار، والذي بدا كلا الطرفين معنيَّين به، توازياً لاستعدادهما لليوم الذي يلي القتال. وجاء هذا التفاهم بعد مرحلة فاصلة تمثّلت في تصعيد الضغوط لتحسين المكاسب وحفظها، وللتقليل من الأضرار اللاحقة، وهو ما يفسّر تجاذب الواقع الميداني أخيراً، بين شبه التهدئة وانفلاش التصعيد، وفقاً للشروط المتضادّة والامتناع المتبادل عن الرضوخ لها، حتى باتت العمليات العسكرية غير مطلوبة لذاتها، إلّا في ما يتعلّق بتعزيز الموقف التفاوضي. وفي هذا الاتجاه، أمكن فهم موقف رئيس حكومة العدو، بنيامين نتنياهو، الذي رفض بـ»أدب» مطالب الإدارة الأميركية بضرورة التهدئة والدفع إليها، في موقف بدا مُوجَّهاً إلى الفلسطينيين – فيما حديثه غير العلني إلى الأميركيين كان يشير إلى خلاف ما تَقدّم -، على اعتبار أن وجود ضغط أميركي علني مُسلّط عليه يؤذي قدرة تل أبيب على إمكانية فرض شروطها أو منع غزة من فرض شروطها هي.

في الواقع، لم يعدُ للعملية العسكرية، بعد مضيّ 11 يوماً على بدئها، أيّ فائدة بالنسبة إلى إسرائيل، إلّا في ما يتعلّق بأهداف ترتبط بالمخارج السياسية للمواجهة، وما دون ذلك تفاصيل لا تدفع إلى استمرار القتال. أنجز جيش الاحتلال مهمّة «تدفيع الثمن» لغزة عبر إيذاء المدنيين فيها وتدمير البنية التحتية المدنية، في محاولة للتعويض عن الإخفاق في مواجهة المقاتل الفلسطيني، في محاكاة تكاد تكون كاملة لاستراتيجيات النازية في المناطق التي احتلّتها. أرادت تل أبيب، إضافة إلى إرادة القتل لذاتها، أن يَفهم صاحب القرار في غزة أن بدء مواجهة لاحقة مع إسرائيل، مهما كان سببها، أو الردّ على اعتداءاتها، سيؤدي إلى الإضرار بالمدنيين الفلسطينيين على نطاق واسع، وهي معادلة يأمل الإسرائيلي أن تردع غزة، أو تحدّ من دافعيتها، إن أرادت، لاحقاً، تعزيز معادلة «غزة – القدس».
في المحصّلة، النشاط العسكري للجانبين مرتبط بالنتائج والمخارج السياسية، لكن لا يمكن أحداً، بما يشمل الإسرائيليين، إنكار المكاسب الفلسطينية المُحقَّقة، وتلك التي يمكن تحقيقها بناءً عليها، وهي واسعة جدّاً ومتشعّبة، بل ويتعذّر حصرها؛ إذ إن هذه المعركة، على خلاف ما قبلها، توسّعت نتائجها لتخرج من غزة إلى الضفة والقدس، وكذلك إلى داخل أراضي عام 1948. في اليوم الذي يلي، بل وقبله، سيكون على الإسرائيلي أن يدرس نتيجة الجولة الأخيرة وتداعياتها على ساحات مواجهة أخرى، وتحديداً في ما يتعلّق بالجبهة الشمالية، سواء مع لبنان أم سوريا، وصولاً إلى الشرق البعيد. نتيجة الحرب على غزة ستكون حاضرة على طاولة القرار، وبفعالية وتأثير مغايرَين لما ظهر في مواجهات سابقة، إنْ لدى تل أبيب، أو لدى جهات القرار في محور المقاومة.