هَرِمنا.. في إنتظار جيل عربي أكثر حكمة
جميل مطر
هرمنا، أنا وأبناء وبنات جيلي. هرمنا في إنتظار حل يعيد الحقوق للفلسطينيين ويبعد عنا شرور الصهاينة وغزواتهم وتوسعهم بالهيمنة أو بغيرها في كافة الأنحاء العربية. لا نعيب على الفلسطينيين انقساماتهم وهجراتهم وتخلفهم في التنظيم والتحشيد، فكلنا، برغم جهود متفرقة ونوايا متقطعة وبرامج ورؤى تنموية وإن مبعثرة، كلنا في هذا المضمار عرب. دخلنا جولات عديدة مع الغزو الصهيوني، ممثلاً في كيانه الإسرائيلي وخطط استيطانه ومعاركه الدبلوماسية والعسكرية وحملات الاختراق المتكررة لعلاقات دولية نجحنا في إقامتها في أقاليم الجوار وخارجها، ممثلاً أيضاً في محاولات السيطرة على مصادر معيشتنا.. وبعضها أفلح. *** حققنا نجاحات في بعض الجولات التي دخلناها مع غزوات الصهيونية، وكان الفشل نصيبنا في أغلبها. تكاد السيناريوهات في كل الجولات تتطابق. متى وأين تبدأ ومتى وأين تتوقف. لم يحدث إلا نادراً أن خرجت شعوب في دول الإقليم إلى الشوارع لإظهار الدعم والتأييد للشعب ضحية العدوان الصهيوني فور وقوعه. دائماً كنا نتأخر يومين أو ثلاثة وفي أحيان غير قليلة لم نتحرك إلا بعد أسبوع أو أكثر. عادة كانت شعوب أخرى، أوروبية مثلاً، تسبقنا إلى التظاهر دعماً للفلسطينيين أو اللبنانيين أو السوريين أو المصريين ضحايا الغزو أو التوسع. بيننا من لم يخرج. إما لأنه في بلاده جرت العادة أن لا أحد يخرج دعماً أو كرهاً لشيء أو لشعب أو أنه لم يخرج لأن نبأ الغزو لم يصل إليه. *** كاد هذا السيناريو بعينه يتكرر خلال الأيام الماضية. تكرر بالفعل ما يشبهه ولكن باختلافات طفيفة. نراها بوضوح لو ابتعدنا قليلاً عن الشاشة وأجرينا المقارنة بين ما كنا نفعل في المرات السابقة وما نفعل هذه المرة. بعضنا أجرى المقارنة على صعيد آخر. أجراها بين ما فعلت أمريكا والمفوضية الأوروبية وبريطانيا في المرات السابقة وما فعلت هذه المرة. سألنا أنفسنا إن كنا نتوقع من مجلس الأمن سلوكاً مختلفاً عن سلوكه في المرات السابقة. جاءت الإجابة بالنفي طبعاً ولكن بدون شعور بالإحباط وبدون غضب. لم أسأل، ولن أسأل، إن بقي في جيلي من يتعشم خيراً في جامعة الدول العربية إن هي بقيت. لم يبق أحد في جيلي ينتظر منها خيراً أو يتوقع شراً. الجامعة العربية فقدت حاسة، هي واحدة من أهم الحواس الضرورية لبقاء الأشياء والمؤسسات. تنشأ المنظمات الإقليمية، كما هو معروف، استجابة لحاجة ولتنمية حواس بعينها وأداء وظائف حيوية. الدول أعضاء الجامعة العربية لم تقدر تماماً حجم المسئولية عندما تبنت قضية فلسطين، أو قدّرت وأساءت التقدير. الشيء نفسه فعله قادة عرب كل على حدة أو مجتمعين. تحمسوا لحق بعيد المنال أو باطل يريح البال. نشأت الجامعة عاجزة وعاشت، معظم سنوات حياتها، عاجزة. *** لا شيء في عالم السياسة وبخاصة في العلاقات الدولية يتكرر حرفياً. يسود الاعتقاد بين كثير من المتخصصين في علاقات الشرق الأوسط وفيه إسرائيل أن الأزمة الراهنة بين الغزاة وأهل فلسطين مثلها مثل سابقاتها لن تغيّر في السياسات الإقليمية قيد أنملة. لن تغيّر من سياسات الاستيطان، لن تغيّر في طبيعة الحالة الغزية في السياسة العربية، نسبة إلى غزة. لن تغيّر في طبيعة ونمط العلاقات التي أقيمت مؤخراً بين إسرائيل ودول عربية لم يسبق لها أن جرّبت علاقات مع حكومة وشعب المجتمع الصهيوني في ظل أزمة إقليمية على مستوى الأزمة الراهنة. لن تغيّر في أسس العلاقة بين الولايات المتحدة وإسرائيل ولا في العلاقة مع روسيا أو الصين. نتنياهو في ظروفه المتوترة مع عدالة تنتظر نهاية لمراوغات لا تبدو لها نهاية، ونتنياهو الحريص دائماً على تأكيد قربه من الكونجرس الأمريكي يجد نفسه فعلاً عاري النفوذ في عراء واشنطن الجليدي خلال شهور الشتاء أزعم، على العكس، أنها مع نتائجها ستكون مختلفة لأن أموراً ووقائع اختلفت. على سبيل المثال أولاً، بدت الأصوات والآراء الإسرائيلية المعارضة للحكم في إسرائيل أعنف وأكثر حدة. لعلها الكورونا وقوانين الإغلاق التي تسببت فيها أو لعلها الأزمة الاقتصادية والكساد في سوق العمل. كلها وغيرها ساهمت في تعدد مواقف الاحتجاج على التعامل الحكومي مع الأزمة وبخاصة مع سياسة تسخين الظروف الدافعة لنشوبها على امتداد شهر رمضان حتى احتدمت. على سبيل المثال ثانياً، إسرائيل وجدت نفسها خلال الأيام المائة الماضية وربما أكثر قليلاً في وضع استثنائي في علاقتها بواشنطن. عاشت هذه الفترة يكاد يشلها القلق الناتج عما بدا إهمالاً متعمداً من بايدن. نتنياهو في ظروفه المتوترة مع عدالة تنتظر نهاية لمراوغات لا تبدو لها نهاية، ونتنياهو الحريص دائماً على تأكيد قربه من الكونجرس الأمريكي يجد نفسه فعلاً عاري النفوذ في عراء واشنطن الجليدي خلال شهور الشتاء. كان الظن أن الرئيس بايدن لن يجد بداً من اللجوء لنتنياهو لبث الحماسة في جماعات الضغط الصهيوني لدعمه هو وحكومته. من ناحية أخرى، كانت إسرائيل متوجسة أكثر من مصدر للشر في واشنطن. خرج اليسار الديموقراطي الأمريكي من الانتخابات عاقداً العزم على تثبيت أركانه في بعض أركان السلطة وبخاصة في السياسة الخارجية. لم يكن خافياً افتقار المودة المتبادلة في العلاقات بين يسار الديموقراطيين ويمين نتنياهو. أظن أن نتنياهو ما كان ليترك حكومة بايدن تواصل تجاهله. حاول وردعته أوروبا عندما راح يضغط لوقف المفاوضات مع إيران وحاول مرة ثانية في واشنطن وتصدت له قيادات يهودية. ربما يحاول الآن مرة ثالثة بتصعيد الأزمة مع الفلسطينيين ودفع بايدن إلى إعلان التزامات جديدة لدعمه. إقرأ على موقع 180 بايدن لفريدمان: مصلحة أميركا بالعودة إلى الإتفاق النووي وعلى سبيل المثال ثالثاً، بالتأكيد، أو على الأقل في غالب الظن، لم تكن واشنطن تريد أزمة في الشرق الأوسط على هذا النمط أو في هذا الوقت. ففي نظر أصدقاء عديدين حقّقت حكومة بايدن الجديدة إنجازات هامة خلال المائة يوم الأولى وما كانت تريد أن تظهر في أزمة لم تحسب حسابها في صورة أقل بهاء أو تبدو في تصرفاتها مترددة. حققت بضغوط متسارعة ولكن متناسقة تحركات إيجابية في مواقع عديدة وفي مدة وجيزة. ساد شعور بأن بايدن ومجموعته استعدوا وبنجاح لإغلاق أبواب أوضاع مزعجة في الشرق الأوسط، وهو الإغلاق الذي يسمح لواشنطن بالخروج إلى آفاق جديدة تتناسب وطموح علاقة تنافس استراتيجي مع الصين ثم مع روسيا. وعلى سبيل المثال رابعاً، لم يكن على طاولة أي حكومة عربية مساحة تتسع لدور في ملف نزاع من هذا النوع. كل الدول العربية كبيرها وصغيرها منشغلة هذه الأيام بقضايا بعضها يمس وجودها قولاً وفعلاً وأكثرها متصل بأمنها القومي ووحدة أراضيها وشعوبها. كلها بدون استثناء مهددة في الوقت نفسه بوباء الكورونا وتوابعه الاقتصادية والسياسية والاجتماعية. حكومات هذه الدول وجدت نفسها في خضم غضبة جماهيرية لم تحسب حسابها أو تتمنى وقوعها، كثيرة هي الحكومات التي اختارت التفلت من أي انغماس، وللتفلت كما للتدخل ثمن. *** لا شك أن الأزمة الراهنة فاجأت أغلب الأطراف. لم تستعد معظم الدول المرتبطة بالأزمة ولا الأمم المتحدة أو الجامعة العربية لاتخاذ إجراءات تتناسب والظروف المتغيرة في السياسة الدولية، وإجراءات تتناسب وأحوال شعوب منهكة بالوباء أو الفساد أو سوء الإدارة. ما زلنا في انتظار أن يسكن الغبار ودخان القنابل وأصوات الصواريخ لنتعرف معا شعوباً وحكومات على حجم ما أصابنا من خسائر أخشى أن تتراكم تداعياتها في الأيام والشهور القادمة. نعم ما زلنا أنا وجيلي في الانتظار لنتعرف على حجم ما جنينا على امتداد هذا الصراع من مكاسب، مكاسب أخجل لذكرها