أزمة مجلس القضاء الأعلى تُظهّر عيوبه: الانتخاب بالتزكية والتعيين بالمحاصصة

المفكرة القانونية

نحن على مسافة أيام من انتهاء ولاية 7 من أعضاء مجلس القضاء الأعلى العشرة. وإذ يُخشى أن يؤدّي التأخّر في انتخاب أو تعيين بدائل عنهم تبعا للانقسام السياسي الحادّ إلى فراغ هذه المؤسسة، فإنّ الرأي العامّ سيكون على موعد مع نقاشات طويلة بهذا الشأن، مناقشات ستُظهر أكثر فأكثر عيوب تشكيلها وهي عيوب تجرّدها تماما من ادّعاءات الاستقلالية. فإلى القضاة الكبار الثلاثة المستمرين بعضويتهم بحكم مناصبهم[1]، يتكوّن المجلس:

من 5 أعضاء يعينون بموجب مرسوم يصدر بناء على اقتراح وزير العدل، وهم يعينون عادة وفق الكوتا المذهبية السياسية، تحت طائلة تعطيل تعيينهم. ففي حين تنجح السلطة السياسية في تعيين أعضاء المجلس في فترات الوئام السياسيّ، فإن من شأن التشنّج السياسي كما اليوم أن يعطل آليات المحاصصة ومعها التعيينات في هذا المجلس تماما كما حصل في أعقاب اغتيال رئيس الوزراء السابق رفيق الحريري في 2005-2008.
وعضوين منتخبين من بين رؤساء غرف محكمة التمييز، وهو انتخاب يقرب إلى التزكية بفعل قلة الأشخاص المؤهلين للترشح وبخاصة اليوم في ظل انحصار المرشحين المؤهلين بشخص واحد. وهذا ما سيشهده اللبنانيون اليوم بعدما دعا مجلس القضاء الأعلى إلى انتخاب هذه العضوين.
ومن شأن هذه المشهدية المنتظرة أن تؤكّد مرة أخرى ضرورة وضع قانون جديد لاستقلال القضاء، يعيد كيفية تعيين أعضاء المجلس ويؤدّي عمليا إلى تحريره من سطوة القوى السياسية، وهو شرط لتمكينه من أداء دوره الأساسي الذي هو السهر على استقلالية القضاء.

انتخابات تحت ستار التزكية

شكل انتخاب عدد من أعضاء مجلس القضاء الأعلى العنوان الإصلاحيّ الوحيد للقضاء العدلي في وثيقة الطائف، وذلك تيّمنا بالمعايير الدولية في هذا الشأن. لم تحدِّد هذه الوثيقة عدد المنتخبين في المجلس، فاستغرقت القوى السياسيّة 12 سنة قبلما تحصر هذا العدد بعضويْن من أصل 10، الأمر الذي يجعل قدرتهما في التأثير على قرارات المجلس أو على توفر نصابه جدّ محدودة. وما قلّل من أهمية الإصلاح هو شروط حصول الانتخاب، سواء لجهة تحديد شروط الترشح أو شروط المشاركة في التصويت. وهذا ما يتحصل من المعطيات الآتية:

المعطى الأول: أن حقّ الترشح لعضوية مجلس القضاء الأعلى ينحصر برؤساء غرف محكمة التمييز أي بمن وصلوا إلى قمة الهرم القضائي تبعا لمراسيم تشكيلات قضائية وافقت عليها القوى السياسية المعنية. وفيما يبلغ عدد رؤساء الغرف 10 فقط، فإن ثمة أعرافا ونصوصا تؤدّي عملياً إلى تخفيض هذا العدد إلى خمسة في أحسن الأحوال (أي أقل من 1% من مجموع القضاة). فبداية، لا يكون لرؤساء الغرف الذين شغلوا عضوية المجلس (وهم عموما ثلاثة: إثنان منتخبان وواحد معيّن) حقّ الترشح مجددا. كما درج العرف أن يمتنع رؤساء الغرف من الطائفة السنية (وعددهم 2) عن الترشّح، على اعتبار أن المجلس يخضع لمعادلة الكوتا الطائفية وأن المقعدين السنيين داخل المجلس مشغولان من قبل عضويْن حكمييْن هما النائب العام التمييزي ورئيس هيئة التفتيش القضائي. وقد ينقص هذا العدد أكثر في حال شغور مراكز في رئاسات غرف محكمة التمييز بتاريخ الانتخابات من دون صدور تشكيلات قضائية لملئها. وهذا ما يحصل حاليّا طالما أنّ 6 من رؤساء الغرف العشرة بموجب تشكيلات 2017 قد بلغوا سنّ التقاعد. وعليه، وفي ظل الشغور الواسع لهذه المراكز، سنجد أنفسنا اليوم أمام مرشّح واحد محتمل هو رئيس الغرفة الرابعة القاضي عفيف الحكيم، مع احتمال ارتفاع العدد إلى إثنين في حال قرر رئيس الغرفة السابعة جمال الحجّار تجاوز الأعراف الطائفية وهو أمر مستبعد وإن يبقى ممكنا. إلا أنه في كل الحالات، فإننا لن نكون أمام انتخاب إنما فقط أمام تزكية شخص أو شخصين سبق أن زكتهم السلطة السياسية أكثر من مرة في مراسيم التشكيلات القضائية، على نحو أوصلهم إلى مراكزهم في قمة الهرم.
المعطى الثاني: أن حق الإنتخاب ينحصر بأعضاء محكمة التمييز، مع تجريد مجمل القضاة العاملين في المحاكم الابتدائية والاستئنافية فضلاً عن قضاة النيابة العامة والتحقيق من حق المشاركة في الإنتخاب. وتاليا، يدخل ضمن الهيئة الناخبة في أحسن الأحوال ما يقارب نسبة 9% من مجموع القضاة فقط.
تعيين سياسي يتعطل عند تعطيل آليات المحاصصة

رغم أن النصّ القانوني خلا من أيّة اشارة إلى الانتماء الطائفي لأعضاء المجلس، فإنّ الأعراف أدّت إلى فرض المعادلة الطائفية الشهيرة: المناصفة بين المسيحيين والمسلمين مع ضمان حصص لجميع المذاهب الأساسية. وعليه، يتوزّع أعضاء المجلس على النحو الآتي: ثلاثة موارنة ومن بينهم رئيس مجلس القضاء الأعلى، وأرثوذكسي وكاثوليكي وسنيان وهما النائب العام التمييزي ورئيس هيئة التفتيش القضائي وشيعيان ودرزي. ويُشار إلى أن هذا العرف يؤخذ بعين الاعتبار حتى عند انتخاب العضوين من بين رؤساء غرف محكمة التمييز كما سبق بيانه، ويؤدي إلى إجراء التعيين على ضوء طائفة القاضيين المنتخبين. ومن شأن التمسك بهذه المعادلة الصارمة أن يشكل مدخلا لتكريس ممارستين خطيرتين:

الأولى، تسييس أعضاء المجلس أنفسهم تبعا لإدخال تعييناتهم ضمن لعبة المحاصصة بين زعماء الطوائف. وهذا ما تجلى بوضوح كلي وبشكل كاريكاتوري في فترة الصراع السياسي الدائر حول تعيين أعضاء مجلس القضاء الأعلى والذي أبقى المجلس معطّلا لشغور غالبية مقاعده في فترة 2005-2008. وقد بدا واضحا من خلال التجاذب الحاصل أن الطبقة السياسية تعاملتْ آنذاك مع التوزيع الطائفي داخل المجلس على أنه ضمانة لها لتعيين ممثّلين أو أشخاص يراعون مصالحها في كلّ ما يتصل بمقرراته.

الثانية، توسيع دائرة التطييف في التشكيلات القضائية، بحيث تنشأ أعرافٌ يكون من خلالها الأعضاء من طائفة معينة كلمة وازنة (هي في الغالب كلمة القوى السياسية التي عينتهم ممثلين لها في المجلس)، في ملء المراكز القضائية المحجوزة لهذه الطائفة.

ومن شأن استتباع أعضاء المجلس على هذا الوضع أن يجعله (أي المجلس) أقرب إلى ذراع للنظام السياسي داخل القضاء منه إلى ضمانة للقضاة في وجه هذا النظام.

وبفعل ذلك، بتْنا نشهد تعطيل أعمال المجلس ومعه عمل المرفق القضائي برمته في فترات الانقسام السياسيّ. وهذا ما حصل مثلا حين حال الخلاف المستحكم حول تعيين أعضاء المجلس دون إصدار تشكيلات قضائيّة في الفترة الممتدة بين 2005 و2009. فوصل عدد خريجي معهد الدروس القضائية غير المشكّلين في مناصب قضائية معينة 104 قاضيا، علما أن مجموعة من هؤلاء انتظرت أكثر من 4 سنوات بعد تخرجها قبل مباشرة العمل في القضاء.

خلاصة:

يجتمع اليوم من حيث المبدأ أعضاء محكمة التمييز لانتخاب ممثليْن عنهم في مجلس القضاء الأعلى. بالنظر إلى طبيعة الانتخابات التي هي في واقع الأمر تزكية والهواجس من صعوبة ملء سائر المراكز الشاغرة في مجلس القضاء الأعلى، ربما الحدث الأهم اليوم لا يحصل في محكمة التمييز إنما في مكتبة المجلس النيابي، حيث دعا النائب جورج عدوان (بصفته رئيس لجنة الإدارة والعدل) عن صيغة جديدة لاقتراح استقلال القضاء وشفافيته التي كانت تقدمت به “المفكرة القانونية”. فهل تأتي هذه الصيغة متوافقة مع معايير استقلال القضاء؟ هل يتم زيادة عدد الأعضاء المنتخبين من القضاة أنفسهم؟ والأهم، هل يتوسع حق الترشح والانتخاب ليشمل مجمل فئات القضاة من دون استثناء؟ فلنراقب.

Exit mobile version