الأخبار- آلان غريش
تغيَّر الزمن، ورأت فرنسا موقعها الدولي يتراجع، وبات الانتماء إلى الاتحاد الأوروبي ذريعة لمزيد من الانسياق خلف الولايات المتحدة بدلاً من أن يكون وسيلة لأداء دور متمايز عنها. يتجلّى هذا الواقع بشكل صارخ في موقفها من فلسطين. في الماضي، كانت تنظر إلى الصراع على أنه جارِ بين محتلّ ومحتلّين، غير أنها تبنّت منظور “الحرب على الإرهاب” الذي صاغه بنيامين نتنياهو في الثمانينيات. لا بدّ من التذكير، هنا، بأن جبهة الأعداء، بحسب تصنيف هذا المنظور في تلك الفترة، لم تكن تضمّ “منظّمة التحرير الفلسطينية” والاتحاد السوفياتي وحدهما، بل “المؤتمر الوطني الأفريقي” والحركات الثورية في أميركا اللاتينية كذلك، بينما كان العالم الحرّ يتغنّى بفضائل “المجاهدين الأفغان” باعتبارهم “مقاتلين من أجل الحرية”. لكن “الإرهاب الإسلامي” اليوم حلّ في مكان الشيوعية. وفي فلسطين، فإن مقاومة الاحتلال، وخاصة في حالة اللجوء إلى العنف، أضحت تُعرَّف على أنها “إرهاب”.
تُكرّر فرنسا تأييدها لإقامة دولة فلسطينية إلى جانب إسرائيل ورفضها للاستيطان، من دون أن تقرن ذلك بأيّ إجراء أو فعل قوي، ولو على المستوى الدبلوماسي حصراً. ومنذ “اتفاق أوسلو”، طبّعت علاقاتها مع إسرائيل على الصعد الاقتصادية والسياسية والعسكرية والأمنية، وتعاملت مع حقيقة احتلالها للأرض الفلسطينية على أنها مشكلة ثانوية. ومع الفشل المتوقّع للمسار التفاوضي، تبنّت فرنسا الخطاب الأمني الإسرائيلي؛ فخلال الحروب المتتالية على غزة، كانت تنافح عن “حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها”، بينما تُنكر هذا الحق بالنسبة إلى الفلسطينيين. وترافق مع هذا انبهار متزايد بين السياسيين الفرنسيين، إن كانوا من أنصار الأغلبية الحاكمة أو من المعارضتَين اليمينية واليسارية وخاصة تلك الاشتراكية، بـ”النموذج الأمني الإسرائيلي”. جميع القوى المذكورة لا تأخذ بعين الاعتبار واقع الاحتلال، وما يعنيه بالنسبة إلى الشعب الفلسطيني، ورأينا رئيسة بلدية باريس، الاشتراكية آن هيدالغو، تفتتح ساحة للقدس في المدينة بحضور رسميين إسرائيليين فقط. المشترك بين تلك المواقف هو ازدراؤها التامّ للقانون الدولي، الذي كان مرجعية للسياسة الفرنسية حيال هذه المنطقة وقضاياها، منذ 1967 حتى أواخر الثمانينيات.
وقد نجحت الحكومة الإسرائيلية في استخدام تهمة “العداء للسامية” لترهيب أيّ تضامن مع الفلسطينيين، والتعمية على تواطؤها مع حكومات ــــ كالمَجَرية والنمساوية ــــ وحركات يتضمّن خطابها “عداءً للسامية”، طالما أن هذه الأخيرة تساندها في حربها ضدّ العرب. تبنّت الحكومة الفرنسية الخطاب المستلهَم من ذلك الإسرائيلي لتبرير منعها لعدّة تظاهرات تضامنية مع غزة التي تتعرّض للعدوان. لا تكتفي فرنسا، “بلد حقوق الإنسان”، بانتهاك الحق في التعبير والتظاهر، بل هي تتجاهل أيضاً قرار محكمة العدل الأوروبية التي دانت تجريمها لـ”حركة مقاطعة إسرائيل”. عنصر جديد ضاعف من خطورة تلك الخيارات، وهو هجوم إيمانويل ماكرون على ما سمّاه “الانفصالية الإسلامية”، في سياق حملته لإعادة انتخابه رئيساً للجمهورية في ربيع 2022. وعبر خلطه المتعمّد بين الإرهاب والإسلامية، وهو مفهوم غائم لا يميّز قطاع معتبر من الفرنسيين بينه وبين الإسلام كدين، يتموضع ماكرون إلى جانب حليفه الإسرائيلي في “الحرب العالمية على الإرهاب”. ولا تهمّ بالنسبة إليه طبعاً تغذية السياسة الإسرائيلية ونتائجها، للظواهر الإرهابية.
هذه السياسة خطرة على الدور الذي تعلن فرنسا عزمها على القيام به في لبنان ودول أخرى من المنطقة. لقد شهدنا ردود الفعل المستنكرة من جميع الأوساط في العالم العربي ضدّ تصريحات الرئيس الفرنسي المتغطرسة عن الإسلام. وعلى عكس ما يظنّه الكثير من الدبلوماسيين الفرنسيين، فإن فلسطين لم تتحوّل إلى “قضية هامشية”، بل هي لا تزال تحتلّ موقعاً مركزياً في وجدان شعوب المنطقة، كما تُظهر تظاهرات التضامن مع غزة والقدس من العراق إلى اليمن، ومن المغرب إلى الأردن، ومن لبنان إلى مصر. هل تعتقد فرنسا أن بإمكانها إسماع صوتها عندما تقف في صفّ الذين يدمّرون غزة؟ لقد مكّنت “حماس” الفلسطينيين من التوحّد، بِمَن فيهم أولئك الموجودون في أراضي 1948، عبر دخولها على خطّ معركة القدس، وهم اليوم يؤكدون كشعب استمرار نضالهم من أجل التحرّر الوطني. السلطات الفرنسية ترتكب خطأ جسيماً عبر التجاهل المتعمّد لهذه الحقيقة الصلبة.