ناصر قنديل-البناء
– يبدو كيان الاحتلال فاقداً كلّ عناصر القوة التي كان يستقوي بها في حروبه الماضية، فهي حرب يخوضها الكيان في أسوأ ظرف سياسي داخلي من دون حكومة فعليّة رغم إجراء أربع جولات انتخابيّة مبكرة متلاحقة، وهي حرب يخوضها الكيان في أسوأ وضع إقليمي بعدما تبلور فشل الحرب التي خاضها مع حلفائه في المنطقة والعالم لإسقاط سورية، وبعدما فشلت سياسة الضغوط القصوى التي خاضتها إدارة الرئيس الأميركيّ السابق دونالد ترامب لإخضاع إيران، وبعدما تحولت صفقة القرن التي أرادها مدخلاً لصياغة حل للقضية الفلسطينية على مقاسه برعاية أميركية ودعم خليجي الى مجرد حبر على ورق بلا شركاء، وبدلاً من أن تبدو القضية الفلسطينية في طور التصفية ظهرت من خلال المشهد الشعبي المساند في عواصم ومدن المنطقة أنها الأشد حيوية وقدرة على جذب الناس الى الشارع، وتحول التطبيع الخليجي مع الكيان الذي أراده بداية لتحول تاريخي في توازنات المنطقة الى جزيرة محاصرة يعجز الشركاء فيه عن توفير الحماية لبقائه، وهي حرب يخوضها الكيان في وضع دولي يشهد انفكاكاً على مستوى الرأي العام الغربي عن الكيان وسياساته، وهو ما تعبّر عنه التظاهرات الحاشدة التي تمتلئ بها عواصم الغرب ومدنه الكبرى، فيما يبدو الكيان للمرة الأولى في تاريخه يخوض حربه هو وليس حرب الغرب أو الأميركي، رغم الدعم الذي يحظى به والحماية التي يحظى بها، فهذه أول الحروب التي لا يجد فيها الغرب مصلحة تخدم سياساته ويراها الكثيرون في الغرب وفي واشنطن تشويشاً على السياسات الغربية، وهي حرب تجري من خارج السياق الغربي والأميركي لرسم السياسات رغم بقاء التمسك بقاعدة منع هزيمة الكيان والالتزام بتوفير الأسباب اللازمة لذلك.
– يخوض الكيان هذه الحرب في مواجهة وحدة شعبية فلسطينية غير مسبوقة، حيث تشترك بالمواجهة بقوة وحيويّة كل مكوّنات الشعب الفلسطيني من أرض الـ 48 الى الضفة والقدس وقوة غزة العسكرية بكل فصائلها، ومن حول هذه الوحدة الفلسطينية نهضة شعبية عربية ودولية استثنائية، وصعود سياسي لقوى المقاومة في فلسطين مع ضمور الخيار التفاوضي، يوازيه صعود لمحور المقاومة مع انتصار سورية وصمود إيران، وتبلور المحور كقوة فاعلة مقابل ضمور وتفكك التحالفات التي أقامتها واشنطن لمحاصرة خيار المقاومة، خصوصاً حلف الحرب على سورية، فيما تجري الحرب في مناخ دولي جديد تتقدّم فيه روسيا والصين كلاعبين فاعلين يُنشئان توازناً ينهي زمن التفرد الأميركي، بحيث يبقى الالتزام الدولي بأمن الكيان نقطة تحظى بالإجماع، لكن السياسات التي ينتهجها الكيان تكاد لا تجد من يؤيدها ويتبناها للمرة الأولى، عدا عن التسليم بسقوط القيمة الوظيفية للكيان.
– يخوض الكيان هذه الحرب بعدما فقد القدرة على المبادرة للحروب، وهي أول حرب تتمّ بمبادرة من فصائل المقاومة، وبعدما تآكلت قدرة الردع، وتظهر القبة الحديديّة التي تباهى بفاعليتها أعجز من أن توفر له الحماية، بينما تصل صواريخ المقاومة ذات العيار الثقيل والرؤوس المتفجرة الى كل مدن الكيان ومنشآته على مساحة فلسطين المحتلة، وبدلاً من نقل الحرب الى ساحات الخصوم تخاض الحرب على ساحة الأرض الفلسطينية المحتلة التي يصفها الكيان بصفتها ساحته التي نجح طوال عقود بإبقائها بمنأى عن الاستهداف، فإذا الكيان كله في الملاجئ، ويواكب هذا التحوّل تعرّض منشآت الكيان الاقتصادية للشلل وإصابته بخسائر اقتصادية كبرى، مع توقف المطارات والموانئ والمصانع والبورصة، ويترتب على العاملين العسكري والاقتصادي للمرّة الأولى أسئلة وجوديّة من نوع قدرة الكيان على البقاء وتراجع الثقة بمدى صلاحيّته كمكان صالح للحياة والاستثمار.
– مقابل كل نقاط الضعف التي تحيط بالكيان في ظل هذه الحرب، يبدو بنيامين نتنياهو ممسكاً بنقطة قوة واحدة، يجعلها سبباً لمواصلة الحرب، وهي أن الكيان للمرة الأولى يواجه حرباً تحت عنوان لا يتصل بساحة جانبية، كاحتلال لبنان أو ضرب مقاومته، أو كحصار غزة، أو إضعاف سورية، فعنوان الحرب مستقبل القدس بعنوانين يختصران مشروع تهويدها، هما مستقبل المسجد الأقصى ومصير قرارات تهجير سكانها الأصليين، وهذا العنوان الذي تجرأ اسحق رابين على اعتباره موضوعاً للنقاش فدفع حياته ثمناً، كرّس القيادة الشعبية والسياسية للمستوطنين المتطرفين وهمش المجتمع السياسي التقليدي للأحزاب التاريخية في الكيان، كما كشفت الانتخابات المتكررة، وفي ظل إرهاب المستوطنين المتطرفين لا يجرؤ أحد في المستوى السياسي للكيان على المطالبة بدفع ثمن لوقف الحرب هو وقف التهويد، ما يجنب نتنياهو الضغوط التي كان يشهد مثلها في الجبهة الداخلية للمطالبة بوقف حروب أخرى، لم تكن عناوينها تمسّ وجودياً البعد العقائديّ لوجود الكيان.
– حتى يتبلور المستوى السياسي العقلاني في الكيان ومعه القوى الاقتصادية الفاعلة، كقوة ضاغطة، يأخذ المستوطنون المتطرفون الحرب نحو تحوّلها إلى حرب إبادة للفلسطينيين في غزة، وحرب دمار متبادل لغزة ومدن الكيان، وخطر تحولها الى حرب شوارع وأحياء ومدن وأرياف بين الفلسطينيين والمستوطنين، ويبدو نتنياهو الفاقد شعبية تمكنه من الفوز بنصاب كافٍ لتشكيل حكومة قد وجد في هذا الوضع فرصته الذهبية لإحراج كل خصومه والإمساك بناصية خشبة خلاصه، وهو يدرك أنه ربما يفتح الباب لتحوّل الحرب الى حرب إقليميّة كبرى يستدرجها تعنت نتنياهو وراء ما يظنه نقطة قوة، وهي تحاول إخفاء كل نقاط ضعف الكيان التي تغري بالحرب، وعنوان القدس جاذب بما يكفي.