عندما تتهاوى «إسرائيل»: بداية أفول الكيان الشاذّ!

 د. عدنان منصور*-البناء

إنه كيان صهيونيّ مصطنع، أسّسه وأيده ودعمه، أحطّ وأقذر استعمار شهده العالم، وأسوأ بني البشر من آرثر جيمس بلفور، ومارك سايكس، وجورج بيكو، مروراً بديفيد لويد جورج، وبوان كاريه وصولاً الى ترومان وكليمنت أتلي، وانطوني ايدن، وغي موليه.

كيان نشأ على الإرهاب والقوة العسكريّة التي وفّرتها له قوى الاستعمار، وسياسيوه، بعد تطهير عرقي ممنهج لفلسطين، ومجازر رهيبة ارتكبتها العصابات الصهيونيّة بحق الفلسطينيين على مرأى من السلطة القذرة التابعة للانتداب البريطاني، أدّت الى طرد مئات الآلاف من الفلسطينيين من ديارهم، وتحويلهم بين ليلة وضحاها إلى لاجئين في دول الجوار.

لقد آثر الكيان الصهيوني المحتلّ، منذ إقامة دولته عام 1948، على تحقيق وتوفير الأمن للمحتلين، وعلى الاحتفاظ الدائم بتفوّقه العسكري على الدول العربية كافة، على أن تبقى ذراعه العسكرية تمتدّ الى أيّ مكان في عالمنا العربي، وبالتالي منع وردع أيّ دولة تحاول خرق سماء الكيان، فكانت «إسرائيل» ولعقود تسيطر، تعربد، تحمي أجواءها، تحارب خارج حدود كيانها الغاصب، تحتلّ، تقصف، تدمّر، ثم تخرج بمعادلات سياسية وأمنية وعسكرية واستراتيجية، لتصبّ في نهاية المطاف في صالحها. إذ كانت مع كلّ حرب، تتقدم وتحقق إنجازات تفرضها فرضاً، تأتي نتيجة الواقع على الأرض، ومعطيات الميدان.

على مدى خمسين عاماً، ومنذ عام 1948، أخذت العدو «الإسرائيلي» عنجهية ما بعدها عنجهية، وهو الذي رأى في نفسه، أنه يمتلك اقوى قوة عسكرية ضاربة في الشرق الاوسط، وأنه بمقدوره أن يلحق الهزيمة تلو الهزيمة بالجيوش العربية كافة وفي وقت واحد. إلا أن غرور هذا الكيان، وعنجهية وصلف قادته، وثقتهم المفرطة بقوة جيشهم، وجهوزيته، وأسلحة الدمار التي يمتلكها، بدأت تتهاوى مع بداية ظهور مقاومة حقيقيّة فاعلة متماسكة، تعرف ما لها وما عليها، وهي في مواجهة عدو، تتعامل معه ليس بالطرق العسكرية التقليدية، وإنما بطريقتها الخاصة التي تستطيع أن تحقق التوازن العسكري معه، وتردعه، وتنتصر عليه، بمعزل عن تفاوت القوة العسكرية، وهي تدير ببراعة، واستبسال قلّ نظيره، عملياتها الحربية في ساحة القتال، تجهض تحركات العدو، وتفشل خططه واهدافه، ومن ثم تلحق الهزيمة به.

هكذا فعلت المقاومة الباسلة في لبنان، التي حاربت العدو الصهيوني وعملاءه، على مدى عشرين عاماً، استنزفت قواه البشرية والعسكرية، وأجبرته على الانسحاب من الأراضي اللبنانية المحتلة رغماً عن أنفه، دون قيد أو شرط. وهذا ما لم يفعله على الجبهات العربية الأخرى، بحيث انه كان يخرج في كل مرة، بمكاسب تحققها له نتائج ميدان القتال.

مقاومة لبنان للاحتلال، كانت درساً وعبرة للجميع، من وحيها، بدأت المقاومة الفلسطينية تقوم بدورها الجديد، تخطط، تدرّب، تتحضّر، تتسلّح، تتوحّد، وهي في جهوزية واقتدار كبيرين، وبمعنويات عالية جداً لمواجهة العدو في أيّ مكان وزمان.

إلا أنّ ذراع المقاومة الفلسطينية ظلّ قصيراً لسنوات، ولم يتعدّ حدود ميدانها، وكان العدو يدرك ذلك جيداً عند كلّ مواجهة، فكان سلاحه الجويّ يحقق أهدافه في قطاع غزة، يقصف، يدمّر، يقتل، يهجّر، يشرّد المدنيين، ليترك المقاومة في ما بعد، تلملم جراحها، وتتهيأ لجولة أخرى تستعدّ لها.

إنّ الميدان العسكري أثناء اعتداءات «إسرائيل» على قطاع غزة في شهري كانون الأول وكانون الثاني من عامي 2008 و 2009، وعام 2012، وعام 2014، تختلف كلياً اليوم عن الميدان أثناء عدوان «إسرائيل» 2021 الواسع النطاق على قطاع غزة، رغم كلّ أسلحة الدمار التي تستخدمها ضدّ المقاومة في غزة، إذ ثمة حقائق جديدة بدأت تفرض نفسها في ساحات القتال، تزلزل لأول مرة كيان العدو وتضع وجوده على مشرحة المقاومة الفلسطينية، ليبدأ عدّه العكسي.

هذه الحقائق على الأرض الفلسطينية، التي أفرزتها المواجهات الحربية بين المقاومة الفلسطينية، وقوات الاحتلال «الإسرائيلي»، تستوجب تسليط الضوء عليها، نظراً لأهميتها في الصراع الفلسطيني _ «الإسرائيلي»، وأبرزها:

1 ـ إنّ فكّ الارتباط بين غزة والضفة الغربية، وأيضاً المدن والقرى الفلسطينية الواقعة تحت الاحتلال، الذي كان يحرص عليه العدو «الإسرائيلي»، والناجم عن الخلافات الفلسطينية ـ الفلسطينية، سقط بالكامل، بعد أن طالت صواريخ المقاومة لأول مرة مواقع قوات الاحتلال في شرقي القدس، لتخرج غزة من فضائها الجغرافي الضيّق الى الفضاء الفلسطيني الواسع. ما جعل فك الارتباط بين الفلسطينيين من الماضي، ليعيدوا الارتباط المصيري والوحدة بينهم، ليتجلى ذلك من خلال التظاهرات، وردود الفعل على العدوان من قبل الفلسطينيين في المناطق والمدن والقرى الواقعة تحت الاحتلال منذ عام 1948، وهذا ما لم يتوقعه وينتظره العدو.

2 ـ لقد سقطت منظومة الأمن «الإسرائيلي»، بعد توجيه المقاومة صواريخها الى قلب الكيان، في القدس وتل أبيب، وعسقلان وأشدود وغيرها من المستوطنات الصهيونية، كما سقطت معها قببها الحديدية، التي روّجت لها كثيراً، وأعطتها أهمية كبرى، لتطمئن «الإسرائيليين» عند أيّ حرب تخوضها. إذ أنّ صليات الصواريخ الموجهة ضدّ مدن ومستوطنات الكيان، أظهرت هشاشة القبب الحديدية، ومرغت معنويات الجيش «الإسرائيلي» في التراب، وقلصت فجوة الردع بين المقاومة وجيش العدو، لتفسح المجال لها مستقبلاً، في تعزيز ردعها، وتطوير صواريخها وتقنياتها، لتكون أكثر فتكاً ودقة وفعالية وتأثيراً على كيان العدو وجيشه.

3 ـ لقد بترت المقاومة الفلسطينية، الذراع الطويلة للعدو، فهو لم يعد يحتكر الميدان وفضائه وحده، ولم تعد قواته العسكرية هي التي تحسم الأمور وحدها. فعندما تقصف المقاومة تل أبيب، وعسقلان، فهذا مؤشر كبير على مأزق العدو، وفشله، وانكشاف أمنه. وهذا الأمر سيترك في المستقبل القريب، تداعياته السيئة في نفوس «الإسرائيليين»،

وستكشف مدى ثقتهم الهشّة بجيشهم وصدقيّة قادتهم الذين كانوا بتغنون دائماً ويتباهون بقدراته، وإمكاناته الكبيرة في الحفاظ على أمن «الإسرائيليين»، والقضاء على أيّ عمل عسكري يستهدفهم.

في حرب غزة عام 2021، سقطت مقولة «إسرائيل» القائلة إنها دولة لا تقهر ولا تهزم، فهي اليوم تتجرّع السمّ ومرارة الهزيمة، وترى نفسها عاجزة عن تحقيق النصر على المقاومة. هناك حقيقة في الصراع الفلسطيني «الإسرائيلي»، وهي أنّ «إسرائيل» تنهزم عندما لا تنتصر، لكن المقاومة تستمرّ وتنتصر عندما لا تنهزم، وما دامت المقاومة مستمرة فهي على طريق الانتصار.

4 ـ لقد حظيت «إسرائيل» منذ قيامها بدعم لا مثيل له، من دون حدود أو تحفظ من القوى التي أنشأتها، أكانت في أوروبا او الولايات المتحدة، أو غيرها. وقد وفرت هذه القوى للعدو، كلّ وسائل الدعم المادي والعسكري، والسياسي، والدبلوماسي، والمالي، والإعلامي، مظهرة «إسرائيل» على أنها دولة سلام، ومهدّدة من قبل جيرانها، فكان الغرب بإعلامه المنحاز من دون ضوابط أو حدود يروّج لها، ويظهرها للعالم على أنها واحة الديمقراطية والحرية والسلام في المنطقة!

لكن اليوم، بعد كلّ الزيف، وبعد انقشاع الرؤية في الغرب شيئاً فشيئاً، وتوفر وسائل التواصل الحديثة، وسهولة انتقال الخبر والصورة بسرعة، دون تزييف، او تشويش، بدأت تتكشف حقيقة دولة العدوان والتمييز العنصري «الإسرائيلي». إذ نجد اليوم تغيّراً واضحاً في مواقف العديد من السياسيين والمسؤولين، والإعلاميبن، والنشطاء الغربيين، حيث ندّدوا بـ «إسرائيل» وسياساتها العنصرية، واعتداءاتها وخرقها للقوانين الدولية، وتهديدها للأمن والسلم في المنطقة. لم تعد الساحة الدوليّة في خدمة العدو كما كانت لعقود عدة. المقاومة الفلسطينية التي كان يُنظر اليها من قبل الغرب نظرة سلبية، أضحت اليوم تكتسب مواقع متقدّمة متنامية تصبّ في خدمة قضيتها، وتستقطب دعم وعطف شريحة واسعة من المجتمع الدولي، لا سيما الأوروبي وفي الداخل الأميركي، بعد أن احتكر العدو ولسنوات طويلة العطف والدعم له، وبانت حقيقته المزيفة.

5 ـ إنّ قصف المقاومة لمدن ومستوطنات الكيان، ستظهر نتائجه الوخيمة جلية، على حركة الهجرة الصهيونية من وإلى «إسرائيل»، حيث سيرى العالم مطارات العدو بعد انتهاء العدوان على غزة والفلسطينيين، كيف ستعجّ بـ «الإسرائيليين» الذين سيغادرون الكيان الوهم، خوفاً، ويأساً وإحباطاً، للعودة الى البلدان التي يحملون جنسيتها، والتي أتوا منها الى أرض فلسطين.

لم يعُد المستوطنون بغالبيتهم يثقون بقادتهم، ولا بمستقبلهم، ولا باستمرارية دولتهم، ولا بالأمن والأمان الذي ينتظرونه. لقد كان أبراهام بورغ رئيس الكنيست الأسبق، وأحد أعمدة الصهاينة، محقاً عندما ذكر في كتابه Vaincre hitler، انّ أكثرية «الإسرائيليين» لو خيّروا بين العيش في «إسرائيل» والعيش في أميركا او باريس او لندن، سيختارون العيش في هذه البلدان. وهذا ما يدلّ على عدم ثقتهم باستمرارية كيانهم، او استقراره وأمنه.

6 ـ إنّ «إسرائيل» التي ترتكز الى هجرة اليهود اليها، تجد نفسها اليوم في عجز ديموغرافي أمام ما يحيطها من نمو سكاني عربي معادٍ لها في الشكل والأساس، يمتلك مع الأيام كلّ أسباب القوة، ليقلب في ما بعد الموازين رأساً على عقب، ما يهدّد بعد ذلك وجودها بالصميم، ويضع مصيرها على المشرحة. «إسرائيل» تراهن على العدد وتتخوّف منه، لذلك تسعى بكلّ قوة لانتزاع اعتراف عربي بها، على أنها دولة لليهود، كي تتمكن في ما بعد من تهويد الكيان بالكامل، مستندة الى مفهوم الدولة اليهودية، وإلى الاعتراف العربي المسبق بهذا الواقع، قبل أن يأتي اليوم الذي يتجاوز فيه عدد الفلسطينيين، عدد اليهود، عندها ستكون «إسرائيل» مجبرة على الأخذ بالاعتبار عامل الديموغرافيا في توزيع مناصب الحكم والسلطة فيها، وهذا ما لا تريده، وترفضه بالمطلق.

7 ـ لقد عوّلت «إسرائيل» كثيراً في السنوات القليلة الأخيرة، على المتغيّرات في المنطقة، من خلال مبادرة الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب لجهة صفقة العصر، ونقل سفارة بلاده الى القدس، وهرولة بعض «العرب» للاعتراف بها، والتطبيع معها، ظناً منها، أنّ معادلة جديدة تطرح نفسها، لتقلب الموازين، وتطوي صفحة القضية الفلسطينية الى الأبد، وتثبت كيانها ليكون محور المنطقة مستقبلاً، والمهيمن عليها.

جاءت الحرب اليوم، لتطيح بالكامل بصفقة العصر، وتكشف زيف ونفاق المطبعين العرب، ولتقضي على الحلم «الإسرائيلي» الوهم، بإنهاء القضية الفلسطينية، وانتزاع الاعتراف العربي بـ «يهودية إسرائيل». حرب غزة جاءت لتؤكد مرة أخرى على حق المقاومة وحق الفلسطينيّين في تحرير أرضهم الكاملة من الغزاة المحتلين وإقامة دولتهم الحرة.

8 ـ إنّ الحرب على غزة، عرّت وكشفت المعدن الحقيقي لبعض الحكام والمسؤولين المحسوبين على «العرب»، حيث صمتوا امام العدوان «الإسرائيلي» على الفلسطينيين، كصمت القبور، لا حراك لهم، ولا ذرة كرامة أو شهامة أو نخوة عربية، أو إحساس إنسانيّ تجاه مَن هو مفترض على انه شقيق. ليتهم أخذوا درساً بالكرامة والمواقف الشجاعة من حكام في العالم وقفوا وقفتهم النبيلة حيال الفلسطينيين، مندّدين بالعدوان الصهيوني.

على الفلسطينيين اليوم وغداً، ان يميّزوا جيداً بين الصديق والعدو، بين مَن يقدّم لهم وسائل الدعم دون حدود، وبين المنافقين المتآمرين على قضية فلسطين وحقوق شعبها، وأن يقيّموا بموضوعية وشفافية كاملة الصديق والشقيق الحقيقي بعيداً عن الرواسب والخلفيات العرقية والقومية والطائفية. فطهران أقرب الى القدس من المنامة، ودمشق أقرب الى فلسطين من الجامعة العربية، وفصائل المقاومة في لبنان، والحشد الشعبي في العراق، تعيش فلسطين في داخلهم، وهم أصدق وأشرف من كلّ المنافقين، المتخاذلين المتآمرين، دعاة التطبيع الوقح، المشبَعين بالذلّ والعمالة.

إنّ رهان الفلسطينيين الأول بعد اليوم، هو على وحدتهم وقوّتهم وجهوزيتهم، والثبات الدائم على المبدأ والوفاء، بعيداً عن التردّد والتقلّبات في المواقف، حيال مَن يقف بجانبهم ويدعمهم بشرف دون قيد أو شرط، خاصة أنّ المقاومة الفلسطينية أصبحت بين فكي كماشة، فكّ العدو الصهيوني من جهة، وفكّ المطبّعين المتآمرين على القضية العربية برمّتها، الذين ما كانوا إلا وصمة عار في جبين الأمة كلها، لوقوفهم مع العدو ضدّ الشقيق، في الوقت الذي ينتفض فيه أحرار العالم ضدّ العدوان والمعتدين.

إنه صراع وجوديّ مستمرّ لن يتوقف. سيتعب العالم ومعه العدو وأذنابه، ولن تتعب مقاومة الفلسطينيين ومناصريهم. فأصحاب الأرض المتجذّرون فيها، لهم الكلمة الفصل. وقد قالوها جهارة. ومهما طال عمر المحتلّ، فمآله الى زوال. هذا هو منطق التاريخ، ومنطق فلسطين ومقاوميها منذ قرون طويلة. حيث دحروا كلّ المحتلين وأخرجوهم من ديارهم، فبقيت فلسطين، وبقي على أرضها الفلسطينيون!

سيأتي اليوم الذي ستتحرّر فيه فلسطين، وفي حينه، سيلعن المستوطنون الصهاينة آباءهم وأجدادهم، وهم في قبورهم المظلمة، على ما فعلوه بهم بجلبهم الى فلسطين، ليلقوا فيها مصيرهم المحتوم، ويروا انهيار الكيان المصطنع على رؤوس المستوطنين المحتلين.

إنها مسألة وقت، عندها سيقول المقاومون كلمتهم، وما صبح فلسطين ببعيد !

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

*وزير الخارجية والمغتربين الأسبق.

Exit mobile version