الكاتب: د.علي مطر
كما بدأت معركة “سيف القدس” التي تقودها المقاومة الفلسطينية ضد الاحتلال الإسرائيلي دفاعاً عن حي الشيخ جراح والمقدسات، حاسمة وحازمة لجهة الدقة والقدرة الصاروخية وامتلاك عنصري التوقيت والمفاجئة، ستنتهي بنتيجة واضحة جدّاً، تتمثّل برسم قواعد اشتباك جديدة تفرضها المقاومة على جيش الاحتلال الإسرائيلي، تقوم على حماية الحقوق الفلسطينية في الضفّة والقدس المحتلّتَين. قاعدة الاشتباك الجديدة التي تأتي إضافة إلى كون كل مستوطنات الكيان قد باتت تحت القصف وبقوة صاروخية هائلة، فإن فكرتها الأساسية هي أن قطاع غزة يمتلك ورقة التدخل عسكرياً، في أيّ تصعيد ضدّ القدس والضفة ومناطق الداخل الفلسطيني كافةً.
أولاً: انجازات المقاومة الفلسطينية
لقد حققت المقاومة الفلسطينية ما لم يتوقعه الاحتلال، خاصةً لناحية استخدام منظومات صواريخ جديدة بمديات أبعد من أي وقت مضى في تاريخ الصراع مع الاحتلال، وإطلاقها بكثافة كبيرة وفي وقت متزامن، والدقة في الاستهداف منذ الصليات الأولى، فضلاً عن استهداف المقاومة الفلسطينية للمدن والبلدات الرئيسية كتل أبيب وعسقلان وغيرها، والعديد من المنشآت الاستراتيجية.
وكما يظهر فإنه للمرة الأولى في تاريخ الكيان تتغطى تل أبيب كلها، من أقصاها إلى أقصاها، باللون الأحمر، من قبل منظومة الإنذار المبكر الإسرائيلي، إيذانا بسقوط صواريخ المقاومة”. ضربة تل أبيب أسست قواعد ردع جديدة وسط تراجع إسرائيلي بقدرات ردعه ودفاعاته.
كل ذلك يظهر سوء التقدير الاستخباري الإسرائيلي، حيث لم يكن التقدير لدى الكيان الصهيوني يتوقع أن تقدم المقاومة الفلسطينية على إشعال الموقف، فضلا عن استهداف محيط مدينة القدس من الضربة الصاروخية الأولى، حيث أثبتت الكثافة العالية للضربات أن المخزون الصاروخي أكبر بكثير من التقدير الاستخباري الإسرائيلي، اذ تم رمي أكثر من 3000 صاروخ من غزة على الكيان الغاصب منذ اندلاع المواجهات بحسب وسائل إعلام العدو، هذا فضلاً عن القدرة على فتح كل الجبهات المتزامنة بالداخل الفلسطيني في وجه الكيان وخاصةً من قبل فلسطينيي 48، الذين كسروا مشروع كيّ الوعي والاندماج، وقد أجبر الجيش الإسرائيلي على تأجيل مناورة “مركبات النار” الكبرى التي حشد فيها العدو أعدادا هائلة من الجنود والإمكانات القتالية من كافة الأذرع العسكرية.
ما تقدم جعل، المحللون الإسرائيليون يعتبرون أن استهداف فصائل المقاومة الفلسطينية لـ”إسرائيل” بالصواريخ يدل على وجود تقديرات استخباراتية معطوبة حول قدرات المقاومة الفلسطينية، فضلاً عن الضعف الإسرائيلي في ايقاف إطلاق الصواريخ من غزة، وعدم القدرة على الدخول البري، بالإضافة إلى الضعف الإسرائيلي في السيطرة على الساحات وعزلها عن بعضها البعض.
ثانياً: استراتيجية الاقتراب الموزع
الإشارات الآنفة الذكر تجعل المتابع يرى أن تحولاً استراتيجياً يحصل في فلسطين، يدفع بالأمل نحو اقتراب تحريرها من الاحتلال، وأننا أمام تحقق شعار القدس أقرب، لكن في ظل كل ذلك هناك من أخذ يطرح أسئلة عن لحظة التحرير؟ وظروف عدم تدخل محور المقاومة كاملاً في هذه الحرب؟ واعترض على عدم فتح كل الجبهات في وجه الكيان الإسرائيلي على اعتبار أنها قد تكون هذه هي اللحظة المؤاتية لذلك.
صحيح أن ما يجري من متغيرات دراماتيكية في المنطقة بشكل عام، وفي فلسطين خلال الأيام الأخيرة بشكل خاص؛ يوحي بأنَّ الحلقة الأخيرة قد اقتربت، وصولاً إلى ساعة الحسم وفرض المعادلات العسكرية والسياسية الجديدة. خاصةً، أن قضية فلسطين بالنسبة لمحور المقاومة هي القضية المركزية، ووضع الشرق الأوسط برمته يتمحور حول هذه القضية، وقد أعاد محور المقاومة تشكيل التوازن الاستراتيجي في الشرق الأوسط وفقاً لهذه القضية، فإن هذ المحور يقوم استراتيجياً على مشاركة الأهداف والدعم المتبادل والتدخل حين تكون هناك حاجة للتدخل، إلا أنه يعمل كمحور واحد بحسب حاجة الجبهات وفتحها في وجه الاحتلال الإسرائيلي، وهو حين يرى أن هناك حاجة استراتيجية لفتح الجبهات الأخرى سيقوم بفتحها، كما حصل عندما ردّ حزب الله على الضربة الإسرائيلية في القنيطرة من خلال تنفيذ عملية في شبعا في لبنان، وقد أكد أن أراضي محور المقاومة باتت اليوم تشكّل جبهةً واحدةً.
لكن من طرح أسئلة عدم التدخل، لم يلحظ أن محور المقاومة يعمل وفق استراتيجية “الاقتراب الموزّع” التي تحكم عمله في الحرب والتي تعني عدم الدخول في مواجهة جماعية مباشرة الا في لحظة استراتيجية محددة، كما حصل خلال الحرب على سوريا، حيث كانت الحاجة الملحة تدعو إلى تدخل كل المحور في هذه المواجهة الكبرى، وهو على العكس من ذلك لم يتدخل في مواجهة القوات الأميركية بعد اغتيال الحاج قاسم سليماني، والرد على ذلك عبر استهداف قاعدة عين الأسد، أو من خلال الدخول المباشر في مواجهة الحرب السعودية على اليمن، ومن خلال ذلك يعطي لكل فصيل أو قوة أو جهة فيه أن يتخذ قرار المواجهة وبإمكانه أن يطلب التدخل، حينما يرى أنه بحاجة لذلك، وهذا ما يجعل محور المقاومة تكتلاً قوياً في القرار والتأثير في المشهد الإقليمي الدولي والعربي.
فنجاح هذا المحور يقوم على ثبات مرتكزاته المحلية في الدول الممتد إليها، حيث بإمكان فصائله في في سوريا ولبنان والعراق واليمن وفلسطين من المواجهة المنفردة، ثم تأتي إيران ومعها سوريا كمنظومة إقليمية جيوبولوتيكية، ضابطة لحركة هذه القوى، ومقدمة للدعم اللامتناهي عسكرياً واقتصادياً وسياسياً، مع الاستعداد للتدخل في أي لحظة في البقع الجغرافية العسكرية التي تواجهها فيها منفردةً أو مجتمعةً.
وبالتالي فإن هذه المعادلة التي تحكم العلاقات بين الاستراتيجي والتكتيكي لا زالت ناجحة حتى الان، ومن المعروف أن قدرات المقاومة في فلسطين هي بدعم كبير مادياً ولوجستياً وعسكرياً من هذا المحور متكاملا ًوخاصةً من قبل الجمهورية الإسلامية الإيرانية، وبالتالي فإن ما تحققه هذه المقاومة من انتصارات مذهلة في فلسطين هو بدعم من كل المحور، وهي عندما ترى هناك حاجة للدعم العسكري من خلال فتح الجبهات فإن كل المحور سيكون جاهزاً لذلك، إلا أن هذه المقاومة هي الآن في موقع قوة، وصاحبة المبادرة واليد العليا، ولا تزال تفرض قوتها على الاحتلال الإسرائيلي الذي لم يستطع تحقيق أي انتصار، لا عبر ايقاف الضربات الصاروخية، ولا عبر توغل بري، ولا عبر فصل الساحات الداخلية عن بعضها البعض، بل لا يزال أمنه مهدداً دون أن يستطيع أن يحقق أي أهداف ردعية، فهو في لحظة انهيار في حين محور المقاومة في لحظات أكبر لتراكم القدرات.
وفي محصلة القول، فإن تدخل محور المقاومة كاملاً عبر فتح كل الجبهات لم يحن وقته بعد، بل العكس من ذلك سيؤدي إلى إعطاء الإحتلال ذرائع أكبر ليفتح حرباً شاملةً بمؤازة أميركية غربية، بشكل يمكن أن يجعل التوقيت الحربي بيده وليس بيد محور المقاومة، خاصةً أن المواجهة الأفضل حالياً هي عبر الإضعاف الدائم لهذا الاحتلال حتى انهياره، بدلاً من أن يكشر عن أنيابه ويتمكن من أخذ المنطقة إلى حرب هو يريدها الآن، وبالتالي فكلما استطاع هذا المحور أن يسجل تراكما في الهزائم للمشروع الصيهوني، سوف يتمكن أكثر من انهاكه واضعافه إلى أن يؤدي في النهاية إلى النقلة النوعية الأكبر التي لا شك بأنها هي لحظة التحرر الوطني والصلاة في القدس.