لو يذكر الزيتون غارسه..!
وفاء أبو شقرا
إلتقيتُ في صيف 1995 في إحدى التظاهرات في باريس، بإلياس صنبر الكاتب والمؤرّخ الفلسطيني. كنتُ مع مجموعة أصدقاء نتظاهر باتجاه السفارة الإسرائيليّة. لا أذكر، بالضبط، الدافع المباشر لتلك التظاهرة. فليس أكثر من الدوافع التي كانت تُخرِجنا إلى الشارع نصرةً لفلسطين. لكنّني ما زلت أذكر لقائي بصنبر العائد للتوّ من حيفا. “أيْنَك يا رجل؟” سأل صديقي إلياس صنبر الذي كان قد عُيّن مسؤولاً عن الوفد الفلسطيني، في المفاوضات حول حقّ عودة اللاجئين. “كنتُ في حيفا”، أجابه وبدأ يُخبرنا عن رحلته. قصّ علينا، كيف توجّه فوراً إلى بيته الذي غادره طفلاً. قال، “وقفتُ في الخارج أتأمّل دياري، ولا أتذكّر شيئاً”. فجأة، خرج رجل متقدّم بالسنّ، بعدما لمحني من الشبّاك وأنا واقفٌ أتلفّت يمنةً ويسرةً وصوب داخل البيت. “ماذا تريد أيّها السيّد؟”، سألني بالعبريّة، يروي صنبر ويضيف؛ قلتُ له (بالإنكليزيّة) إنّ هذا البيت حيث تسكن هو بيتي. “لم أكن أتوقّع ردّة فعله. إذْ بدأ يتكلّم ويُفأفئ ويتلعثم ومن ثمّ يرفع يده يدعوني للدخول. كان سلوك ذاك الرجل كمَن يعتذر عن فعلةٍ ما. كمَن يعرف أنّه يأخذ شيئاً ليس له. أنّه يضع يده على مُلك غيره. فلقد أظهر لي ارتباكه، أنّ كلّ ما قيل لليهود، عن حقّهم بأرضنا، هو مجرّد هباء. فلقد كان الرجل وكأنّه، في قرارة نفسه، يعرف جيّداً أنّه مُغْتَصِب. أنّ ما أُعطي له ليس له”. أنهى صنبر حكايته، وعُدنا والتحقنا بالحشود نهتف لفلسطين وأهلها ونلعن إسرائيل وأهلها. لماذا تذكّرت قصّة الياس صنبر تلك؟ ليس لأنّ “الحدث” الفسطيني يملأ الفضاء هذه الأيّام فحسب، بل للدور الكبير الذي يتظهَّر لفلسطينيّي الداخل. أولئك الذين نجح المحتلّ بتكريس تسميتهم “عرب إسرائيل”. رسميّاً وعلى النطاق الشعبي الواسع وعلى مستوى وسائل الإعلام. أرادت إسرائيل ونجحت، إلى حدٍّ بعيد، أن تنفي عنهم أصالتهم الفلسطينيّة. أن تجيِّر وجودهم لصالح كيانها المحتلّ. لقد شنّت إسرائيل حرباً على الفلسطينيّين في الأرض المحتلّة عام 1948، وحاولت أن تُفهِم المجتمع الدولي والعالم أجمع، أنّها استطاعت تحويلهم إلى إسرائيليّين. إلى أناسٍ يخدمون الصهاينة الذين ينكّلون بهم. يصادرون أراضيهم ويحرمونهم من حقوقهم الإنسانيّة والوطنيّة. لكن، لم تكن إسرائيل وحدها في هذه الحرب. بل “دعمها” معظم فلسطينيّي الخارج، من التنظيمات الفلسطينيّة التي كانت معنيّة بالعمل الفدائي. و”كفّت ووفّت”، أيضاً، السلطة الفلسطينيّة التي انبثقت، بمعظمها، من أنصار “مجموعة الأبَوَات” العائدين من لبنان وتونس إلى أراضي الحكم الذاتي. ألم يعزّز هؤلاء الانطباع لدى المواطنين العرب، بأنّ “عرب إسرائيل” ليسوا إلاّ فلسطينيّين ارتضوا الاحتلال؟ بلى. ألم تكن هذه فكرتنا، عمّن بقي في القدس وحيفا ويافا والناصرة وعسقلان وبير زيت واللدّ..؟ بلى أيضاً. لقد نكّل مَن اعتبرناهم حاملي مشعل قضيّة فلسطين بفلسطين، قبل غيرهم. حوّلوا القضيّة، هم الذين باتوا “عنوان الصمود” من أجلها، إلى مجرّد “تراند”. ساهموا، لكسب المساعدات وجني الأموال والصفقات (مثل كلّ الأنظمة العربيّة)، في تحويل “ثقافة المقاومة” إلى “ثقافة الضحيّة”. فعندما احتكروا حيّز النضال، غيّبوا “الآخر” العربي والعالمي عن الاهتمام الفلسطيني، تحت حجّة “القرار الوطني الفلسطيني المستقلّ” و”ما يقرّره الفلسطينيّون نلتزم به”. ونحن نتصبّب هموماً وذلاًّ كلّ يوم، أنّ شرعيّة قضيّة فلسطين وعدالتها ليستا قضيّة تحرّرٍ وطني فحسب، بل هي معركة ضدّ العنصريّة. هي دفاعٌ عن مستقبل الشعوب والأجيال العربيّة. هذه هي قضيّة فلسطين، يا سادة. ليست، كما تُصوَّر، صراعاً فلسطينيّاً- إسرائيليّاً غابت فلسطين عن اهتمام ودعم الشعوب العربيّة وعن الإعلام، كذلك. صارت جزءًا من ماضي اهتمامات الدول العربيّة. أزاح خوف هذه الدول من إيران، فلسطين وقضيتها من قائمة القضايا ذات الأولويّة لدى العرب. لم تعد فلسطين “الأيقونة”، منذ زمنٍ بعيد. هذا واقع. هذه حقيقة. انتهى زمن “الرومانسيات القوميّة”. اللهمّ إلاّ في عيون بعض اليساريّين والإسلاميّين. فالأنظمة العربيّة المقيَّدة، بغالبيّتها، بعلاقات تبعيّةٍ سياسيّة واقتصاديّة وأمنيّة، نراها اليوم تريد الانفكاك المباشر والصريح عن القضيّة الفلسطينيّة. تريد النظر إلى إسرائيل “كدولةٍ مقبولة في الشرق الأوسط”. فمَن يطّلع على كيفيّة “إدارة” محتوى الموضوع الفلسطيني في المقرّرات الدراسيّة الرسميّة لبعض الدول العربيّة، منذ بدايات التسعينيّات الماضية، يستنتج ما استنتجناه. فلقد عُدِّلت وحُذِفت كلّ المفاهيم التي تتناول إسرائيل بوصفها استعماراً استيطانيّاً. نسينا، ونحن نتصبّب هموماً وذلاًّ كلّ يوم، أنّ شرعيّة قضيّة فلسطين وعدالتها ليستا قضيّة تحرّرٍ وطني فحسب، بل هما معركة ضدّ العنصريّة. وهما دفاعٌ عن مستقبل الشعوب والأجيال العربيّة. هذه هي قضيّة فلسطين، يا سادة. ليست، كما تُصوَّر، صراعاً فلسطينيّاً- إسرائيليّاً. تُضاف إليه، في الغالب، صفاتٌ توصّفه بـ”التاريخي” أو “المُزمن” أو “المعقّد” أو “المصيري”.. إلخ. هو ليس خلافاً بين شعبيْن، كذلك، على أراضٍ متنازَع عليها. وقع الشعب الفلسطيني (ووقعنا معه) ضحيّة استعمارٍ كلاسيكي، مهّد لاستعمارٍ آخر استيطاني وإحلالي. “شو يعني إستيطان يا ماما”، تسألني إبنتي وهي توقّع رسمتها التي نقلتها عن صورةٍ لصبي فلسطيني يقفز فوق النار حاملاً علم بلاده (الرسمة أعلاه). حتّى قبل أسبوعين فقط، كنّا نستقبل أيّ عدوان إسرائيلي على الفلسطينيّين بفتورٍ رهيب. بحيث، كاد يصبح خبر قتل أطفال غزّة والضفّة الغربيّة، من المتفرّقات التي تُدرَج، عادةً، في نهاية النشرات الإخباريّة. حتّى شبكات التواصل الاجتماعي التي تُمطرنا بلزوم ما لا يلزم من الأخبار، لا تلفتها المذابح الفلسطينيّة. هي التي تُتحفنا، ليل نهار، بالآثار المدمّرة للتنمّر على نفسيّة أولاد النجوم، لا تسمع نحيب الأطفال هناك في فلسطين. “الله يسهّلك يابا“، قالها ذاك الطفل في غزّة وهو يركض خلف جثمان والده المحمول إلى القبر. يا ولدي ووجعي عليه! يومان وأنا أبكي كلّما استعدتُ في مخيّلتي تلك اللقطة.. و”أعطي نصف عمري للذي يجعل طفلاً باكياً يضحك”، قالها يوماً الشاعر الفلسطيني الكبير توفيق زياد. وبعد؟ إقرأ على موقع 180 متى يفك “حزب الله” إرتباطه الأمومي بإيران؟ كنتُ قد قرّرت ألاّ أكتب عن فلسطين، السبت الماضي. فعلى الرغم من التحركّات والاحتجاجات التضامنيّة مع فلسطين والفلسطينيّين، في الشرق والغرب، لم تخلُ الساحة من أصحاب النوايا الاستعراضيّة. وممتهني الخطابات والزجليّات، أيضاً. خصوصاً عندنا في لبنان، حيث يتحوّل كلّ شيء وسريعاً إلى دفّة الاستثمار السياسي. عزوفي عن الكتابة عن حكاية نضالٍ عظيم، أشعرني بشيءٍ من الخجل. عذراً فلسطين على الإعراض عنكِ. وعن قصص أرضك المستباحة. أبناؤك، فقط أبناؤك، يقلعون بالرموش قلعاً الشوك والأحزان. صِبيتك، فقط صِبيتك، سينتصبون حول أرضك دروعاً. مقاوموك، فقط مقاوموك، سيظلّون في زيتونك خُضرَته. آهٍ يا فلسطين..! “لو يذكر الزيتون غارسه لصار الزيت دمعاً..”، كتب يوماً الشاعر محمود درويش الذي ترجم أعماله إلياس صنبر، إيّاه، للّغة الفرنسيّة. إقتضت الكتابة عن فلسطين ولها.