الأخبار- بيروت حمود
يحاول أحمد خليفة، من مؤسسي «حراك أم الفحم»، تفكيك الواقع الميداني، مشيراً الى أنه على مستوى التحركات في الشارع «ثمة نوعان من التحركات الميدانية، بعضها رداً على ما يحصل من أحداث في المسجد الأقصى والشيخ جراح وغزة واعتداءات المستوطنين، وبعضها يمثل استمراراً لما كان من تحركات قائمة أساساً». ويعزو انطلاق أولى التظاهرات من أمّ الفحم الى أن الحراك فيها «قائم منذ حوالى خمسة شهور ضد تفشّي العنف والجريمة وتواطؤ الشرطة الواضح في هذا المجال. المتظاهرون في أمّ الفحم يدركون أن قضية العنف قضية وطنية، والمسؤول الأول عنها هو الاحتلال ولذلك لم يتوان هؤلاء عن نصرة الأقصى بينما كانوا في عزّ تظاهراتهم ضد العنف».
خليفة يصف الوضع القائم في الأراضي المحتلة بأنه «مشحون ومكهرب». ولذلك «دلالات مهمة وإيجابية في مقدمتها أن الناس استطاعوا تجاوز خطاب الأسرلة ودعوات التعايش التي يقودها كل من رئيس القائمة المشتركة، أيمن عودة، ورئيس القائمة الموحدة، منصور عباس. هما يقابلان بتجاهل واضح اليوم وهما غير مؤثرين إلا في قواعدهما الأساسية وهناك رفض أصلاً للانصياع لدعوات التهدئة التي يحاولان تمريرها». أمّا الدلالات السيئة لهذه الأجواء فهي «حقيقة أنه لا توجد اليوم قيادة سياسية حقيقية يمكن أن تستثمر في الحراكات وتأخذها إلى الوجهة الصحيحة التي تعبر عن تطلعات الجماهير». رغم ذلك، فإن الحراك اليوم «يمكن أن يؤسس لمرحلة قادمة إذا ما استثمر في المكان الصحيح بعيداً من محاولات احتوائه بمشاريع الأسرلة والاندماج وتقديم الميزانيات وغيرها. صحيح أن هناك دعوات صادقة لإشباع الناس بالكرامة، لكن هؤلاء لن يستطيعوا إطعام الناس خبزاً. ففي حالة إعلان عصيان مدني شامل، من سيوفر مقومات صمود الناس؟».
ومن الإيجابيات الأخرى أن «قضية فلسطين عادت إلى الواجهة، فالعالم منذ سنوات يتحدث بقضايا الإقليم والحروب التي عمت المنطقة العربية ولا أحد يتحدث بمسألة الاحتلال وفلسطين، وهذا يعني أن الحراك حقق نتائج مطلوبة بدليل أنه على المستوى المحلي سمعنا خطابات صهيونية تقول إن ما يحصل في الداخل أخطر على إسرائيل من صواريخ غزة، وهو أمر كشف هشاشة هذا الكيان وقوة الفلسطينيين في الـ 48. وهؤلاء أصلاً يشعرون بأنهم جزء لا يتجزأ من هذه القضية. ففي أمّ الفحم كان الناس يهتفون حطّ السيف قبال السيف إحنا رجال محمد ضيف».
ورداً على سؤال: إلى أين ستذهب الأمور أجاب: ««على أيام سوداء»، موضحاً أنه «رغم أنه سنرى محاولات كثيرة للاحتواء. ولكن لا أحد سيستطيع سدّ الفجوات التي أوجدتها هذه الأحداث. الكل يسأل هنا عن شكل اليوم التالي بعد نهاية العدوان أو في حال عادت الأمور إلى طبيعتها ماذا سيكون الوضع؟».
أمّا في اللد، حيث اندلعت شرارة الأحداث بعد استشهاد موسى حسونة على أيدي مستوطنين، فتبدو الحياة «في حالة من عدم الاستقرار»، كما يصفها ابن المدينة المحتلة، فادي موسى أبو كشك، مشيراً الى أنه «كل الوقت نشعر بتهديد من جماعات المستوطنين الذين يصلون إلى المدينة من الخارج. والسبب الرئيسي لوصولهم هو التحريض المستمر من جانب رئيس البلدية ونائبه ومدير المجلس العنصريين. نحن بالفعل نعيش في حالة من الخوف المستمر على بيوتنا ومحالّنا، واليوم مثلاً عيد الشفوعوت أو نزول التوراة وفرض علينا حظر تجوال يشمل العرب فقط».
أما الأصوات الداعية إلى تهدئة الخواطر، فإن «لأهالي اللد نقداً كبيراً عليها. وهناك من يعتبر أن لجنة المتابعة التي حضرت أمس أتت لتبيعنا الكلام، وحتى ما يسمى باللجنة الشعبية في اللد هناك شخصيات لم تأخذ خطوات جدية مثل تقديم استقالتها من البلدية العنصرية». أمّا زيارة منصور عباس للكنيس الذي أحرق واستعداده لترميمه وجمع التبرعات من العرب، فكان «أجدى به أن يكون في المكان الصحيح مع أبناء شعبه، الذين تم الاعتداء على بيوتهم ومقدساتهم ومحالهم وحتى مقابرهم».
يشرح المحامي والناشط السياسي، وسام عريض، من جديدة المكر، أن جملة من الأسباب أدت إلى اتساع دائرة المواجهات التي شهدتها الأرض المحتلة، أولها مباشرة تمثلت في «الاعتداءات في المسجد الأقصى والقدس والشيخ جراح، وثانيها كانت قائمة أساساً وتمثلت في عمليات الهدم المستمرة للمنازل وقانون كامينتس الذي ينصّ على التهجير والتطهير العرقي المنظّم من قبل المؤسسة الإسرائيلية. وقانون القومية الذي يلغي بشكل رسمي المساواة غير القائمة أساساً بالنسبة إلى الفلسطينيين، ومحاولات تفتيت المجتمع من الداخل بإغراقه في السلاح المهرب من جيش الاحتلال. وتواطؤ الشرطة القمعية ضد كل فلسطينيي الداخل». ويرى عريض أن فرض الإغلاق في جديدة المكر هو «رسالة لكل المجتمع العربي من المؤسسة عن إمكانية إعادة الحكم العسكري في قرى ومدن الداخل».
أمّا دلالات الحراك فقد ثبت أنه «بخلاف توقعات المؤسسة الإسرائيلية؛ أثبت الشباب أنهم ملتصقون بالخط الوطني الصامد في وجه الاحتلال وانتهاكاته التي لا تتوقف». كما أنه يلمس من خلال وجوده المستمر في الميدان وإلى جانب الدفاع عن المعتقلين (الذين بلغ عددهم إلى الآن أكثر من 700 معتقل) فإن «الحراك الشبابي غير المنظّم لن يتوقف ما دام العدوان مستمراً على الأقصى والقدس وغزة».
على هذه الخلفية، يشرح عبد القادر وتد من مدينة الناصرة، أنه «عند كل حدث تتجه الأحزاب الى الشارع لترفع الشعارات، المفاجأة كانت هذه المرة من عدد المشاركين غير المحزبين والأحزاب تعلم علم اليقين أن أعدادها تتقلص والهوة آخذة بالازدياد بينها وبين الشارع». هذه الأعداد التي وصلت الى الآلاف في مجموع المناطق هم «شباب حديثو البلوغ من جيل 14 حتى 19 عاماً، تملأهم الحماسة وروح الثورة التي غابت عن الشارع في ظل تخدير دائم يقوده رؤساء الأحزاب».
المحرك الأساسي هذه المرة هو جملة من الأسباب؛ أهمها «جريمة قتل الشهيد حسونة على أيدي المستوطنين؛ إذ ثار الشباب في كل بقعة في الداخل وفي قلب كل شخص منهم يقين بأنّ أي مستوطن حتى لو كان مسلحاً فهو جبان كفرد وهذا مجرّب منذ زمن ونراه بشكل متواصل وخصوصاً في عهد وسائل التواصل الاجتماعي». بالنسبة إلى الوضع الراهن، يشير وتد الى أن هناك «حالة تأهب مستمرة لقدوم مجموعات من المستوطنين الى المدن والقرى العربية. ففي كل ليلة، هناك جماعة من الشباب تتطوع لحراسة مداخل كل مدينة أو قرية، تبدأ بتظاهرة وتنتهي بدوريات للشرطة ومحاولات لاستفزاز المتطوعين غير المؤطّرين حزبياً».
ويتابع أن «انتهاء العدوان على قطاع غزة وبحث تبعاته وتقييمه وخصوصاً أثره على الداخل من شأنه أن يدخل إسرائيل في حالة جنون، فقد صرفت المليارات منذ عام 2000 بعيد الانتفاضة الثانية وهبّة القدس والأقصى لصهر العربي الفلسطيني حامل الجنسية الإسرائيلية داخل المجتمع الإسرائيلي عن طريق الترغيب في التجنيد لجيش الاحتلال أو لشرطة الاحتلال أو ما يسمى بالخدمة المدنية التابعة لوزارة الأمن». ولكن بخلاف كل ذلك، «الشوارع حرقت كل شاقل استثمرته إسرائيل بتشويه الشباب الفلسطيني حضارياً أو ما يعرف بالأسرلة».
برأي وتد، فإن «المؤسسة الإسرائيلية ستحاول بشتى الطرق الدخول من جديد في أوساط الشباب بنية تخديره عن طريق تسهيلات في الجامعات وأماكن عمل وغيرها، ولا أستبعد حتى توزيع بطاقات سفر الى الإمارات كي تستقطب الشباب غير المؤطر في ظل وهن الأحزاب في الداخل وإسكات أي صوت وطني حر».
أمّا بالنسبة إلى ما يسمّى «حالة التسامح المفرط أو بكلمات أدق حالة الخنوع وعدم الرد على مستوى الحدث من قبل السياسيين ولجنة المتابعة العليا لقضايا العرب في الداخل، فهذا لا يساهم إلا في توسيع الفجوة بين الشارع والناس». ويؤكد: «نحن في عهدٍ جديد فيه التواصل مع العالم العربي والضفة وغزة بشكل يومي ومكثّف من الحياة الجامعية والعملية حتى الألعاب الإلكترونية تلعب عن طريق مجموعات بات أصحابها يعرفون بعضهم بعضاً بشكل شخصي». وباعتقاده أن حالة التقوقع في المجتمع الإسرائيلي ومحاولة التقدم والتطور في الحياة تحت السقف الصهيوني «لم تعد تجدي نفعاً وأصبحت عالة على الشباب الفلسطيني في الداخل»؛ إذ إنه «ليس سراً أننا في الداخل اليوم بأمس الحاجة إلى مشروع تنظيم موحّد للشباب الفلسطيني في الداخل في إطار وطني حقيقي يرى بنفسه جسماً مستقلاً يتعامل مع إسرائيل ضمن شروط وحدود تناسبه داخل أسوار القومية العربية وخارج مظلة الأسرلة».
من جهة أخرى، قالت الناشطة الشبابية هند سلمان، من النقب في بادية فلسطين المحتلة إنه «منذ بداية الأحداث، أنزل الاحتلال قوة من اليمام للتعامل مع الشباب (شرطة الاحتلال لم تتدخل في النقب) أي أنهم منذ البداية تعاملوا معنا بقوة الردع والسلاح». لذلك، يجب أن تكون «الصورة واضحة وخاصة لسالكي طريق “المواطنة الكاملة” بأن هؤلاء لم ولن يتعاملوا معنا كمواطنين، فنحن قنبلة موقوتة بالنسبة إليهم». وتشير إلى أن «أغلب قرانا تقع على شوارع رئيسية ومهمة لربط الجنوب بالمركز والشمال ومستوطنات جبل الخليل والضفة. كان الهدف من هذه الشوارع هو محاصرتنا وعدم التمكين من التوسع الجغرافي مستقبلاً، ولتسهيل تنقل المستوطنين، ولكن هذه الشوارع تحولت إلى مركز الأحداث وأغلق بعضها لعدة ساعات (مثلاً شباب اللقية أغلقوا شارع 6 وشلّوا حركة السير لعدة ساعات)».
وتضيف سلمان إنه «منذ حملة برافر عام 2013، ضخ الاحتلال ملايين الشواقل لأسرلة شبابنا، وبناء خطط ومؤسسات لتنفيذ مشاريع أسرلة وصهر الشباب داخل مجتمعهم، لكن كل هذه الملايين راحت هباءً بمجرد أن نادت القدس وهبت غزة، فالأقصى ليس مكان عبادة فقط بل هو عقيدة راسخة في قلوب الفلسطينيين».
في المحصلة، أثبت فلسطينيو الـ 48 أن المحاولات الإسرائيلية لسلخهم عن امتدادهم الفلسطيني والعربي هي مجرد أوهام راسخة في عقول أصحاب هذا المشروع، وأنهم الحلقة الأشد قوة في «السبحة الفلسطينية»، وأنهم كما وصفوا «أخطر على إسرائيل من صواريخ غزة». وهذه الأولى تدرك ذلك جيداً… والأيام قادمة!