الأخبار- يحيى دبوق
وبما أن العملية البرّية شبه منتفية في هذه المرحلة، ويصعب تصور إمكاناتها لاحقاً، تعمل إسرائيل على المزيد من الشيء نفسه ضمن استراتيجية النيران عن بعد، فيما المعركة من جانب الفلسطينيين تُخاض مادياً عبر الصواريخ والوسائل القتالية الأخرى، إلى جانب المعركة على الوعي وربط الساحات الفلسطينية وقضاياها بعضها ببعض، وهي نتائج باتت شبه محققة ويلزمها لإنهاء الجولة القتالية إقرار إسرائيل بها، الأمر الذي يُظهر حدها النهائي. مع ذلك، تعلن إسرائيل بصورة لافتة أنها مستمرة في المعركة وأن أوان إنهائها لم يحِن، مع أنها تتمنى إنهاء القتال سريعاً، مع الأمل في صورة انتصار ما تتيح لها تقليص الخسائر التي لحقت بها، وأقله تأمين رواية انتصار تخرج بها على مستوطنيها، وكذلك تجاه صورة اقتدارها وضرورات تظهير منعتها وردعها في ساحات مواجهة أخرى، كما الحال مع حزب الله. ووفقاً لتعبيرات عبرية: «إذا كانت هذه هي الحال مع حماس، فكيف بها مع حزب الله».
المواجهة الموازية للقتال العسكري، مع هدف بصورة انتصار ما، تُخاض في مسار سياسي تفاوضي عبر الوسطاء، على أهم نتيجة تقلق إسرائيل جراء المعركة العسكرية مع غزة: الربط بين وقف النار وسلة مطالب وشروط فلسطينية أبرزها القدس وقضاياها وكف اليد الإسرائيلية عنها، وفي المقدمة الحرم القدسي وحي الشيخ جراح، وهو ربط تحصّل بالفعل للفلسطينيين لكن نتيجته النهائية، عبر كفّ اليد الإسرائيلية، لا تريد تل أبيب أن يكون، أو يظهر أنه كان نتيجة لتدخل غزة إلى جانب القدس. وعناد إسرائيل ورفضها التفاوض على القدس مع غزة، خصوصاً أن أداة التفاوض الغزية هي الضغط عبر سلاح المقاومة، يصعّب على الاحتلال قبوله، ناهيك عن شروط أخرى لا يبعد أن تكون موضع تعنّت إسرائيلي، هي انتهاء القتال بما ينسحب على ما بعده من اعتداءات أمنية وغير أمنية قد تكون إسرائيل معنية بها لاحقاً بعد المعركة العسكرية، لضرورات الردع وصورة انتصار لاحقة، وفي المقدمة العودة إلى سياسة الاغتيالات التي فشلت فيها خلال حربها العسكرية.
في اليومين الماضيين، شددت إسرائيل علناً وعبر تسريبات للإعلام العبري أنها لن تنهي المعركة الآن، وحرصت على أن تسمع الأذن الفلسطينية في غزة أنها معنية بأن يستمر القتال. المبالغة هنا واضحة، والحرب النفسية ظاهرة فيها، وجلّ ما تطمح إليه إسرائيل من إفهام الجانب الآخر أنها مستمرة في القتال هو تحسين شروطها السياسية كمخرج، وفي حد أدنى تنزيل ما أمكن من سقف خسائرها على المدى الطويل تجاه غزة والساحات الشمالية.
في هذا السياق، قال رئيس حكومة العدو، بنيامين نتنياهو، إن المعركة العسكرية «لم تنتهِ بعد»، مضيفاً: «يعتقد قادة حماس أن بإمكانهم الهرب من أيدينا. لا يمكنهم الهرب. يمكننا الوصول إليهم وإلى جماعتهم في كل مكان، وسنواصل ذلك». أما وزير الأمن، بيني غانتس، صاخب نظرية استمرار المعركة العسكرية لتعزيز الردع على المدى الطويل، وكذلك رئيس أركان الجيش، أفيف كوخافي الذي اعتاد التأكيد حتى الإفراط أن الحرب المقبلة في أي من ساحاتها ستكون حاسمة والانتصار فيها واضح جداً، يَغيبان عملياً عن منبر التصريحات إلا عبر ما اقتضب منها أو عبر تسريبات.
في المقابل، يقرّ عدد من الضباط الكبار الذين تحدثوا إلى صحيفة «هآرتس» شرط إخفاء هوياتهم بوجوب إنهاء «العملية الهجومية على غزة»، وهو الرأي الذي يتبناه عدد من وزراء «المجلس الوزاري المصغر» (الكابينت) وفق القناة 13 العبرية، وهؤلاء «يعتقدون وجوب إنهاء العملية العسكرية في غزة، بدعوى أن بنك الأهداف قد نُفد». كما يؤكد مسؤولون أمنيون في أحاديث إلى الإعلام العبري، وهو ما يبدو أنه ضغط باتجاه وقف النار، أن استمرار العملية العسكرية قد يؤدي في النهاية إلى خطأ ما من شأنه أن يجرّ إسرائيل إلى صراع أوسع، بما في ذلك هجوم بري في غزة، علماً أن الهجوم البري الذي كانت إسرائيل تهدد به أعداءها مع كل عملية واسعة واعتداء شامل، بات أداة ضغط على صانع القرار في تل أبيب، ويدفعه إلى الانكفاء، خاصة إن كان من نتائجه سقوط قتلى وأسرى إسرائيليين بأعداد كبيرة.
حتى الأمس، كانت إسرائيل في معضلة، وتجد صعوبة مجبولة بمستوى من الإنكار في الخروج منها: إن هي وافقت الآن على إنهاء المعركة، تكون قد أقرت لغزة بنتائج المواجهة التي لا تقتصر الخسائر فيها على الساحة الغزية، رغم الأهمية، وهي تدرك أن استمرار القتال يرفع سقف الخسائر ويعززها، وفي الوقت نفسه البحث عن صورة انتصار ما، بغض النظر عن الانتصار نفسه، صعبٌ ومتعذر ضمن محددات المعركة وإمكاناتها، ما يعني أن استمرار المعركة لتحقيق صورة انتصار يتعذر إدراكها يؤدي إلى مزيد من الإضرار بالأمن الإسرائيلي في أكثر من اتجاه، مع أن ضرورة الانتصار نفسه كبيرة جداً وهي في المقابل تتسبب في استمرار المواجهة وزيادة أثمانها الاستراتيجية.