فلسطين تتمدد

© Getty

بكر صدقي|المدن

ما بدأ بحسابات سياسية صغيرة لبنيامين نتانياهو من تشجيع للمتطرفين اليهود من السلالة السياسية لباروخ غولدشتاين على طرد سكان حي الشيخ جراح من منازلهم والاستيلاء عليها، بغية إحداث تغيير لمصلحة بقائه في الحكم، انقلب إلى انتفاضة فلسطينية ثالثة شملت مدناً وبلدات كثيرة داخل الخط الأخضر. وهكذا استعاد الفلسطينيون وحدتهم بعد عقود من الانقسام بين مناطق السلطة وقطاع غزة، وبين طرفي الخط الأخضر، إضافة إلى فلسطينيي الشتات الموزعين في أرجاء العالم. لعل أكثر ما يثير الحماس هو امتداد الاحتجاجات الشعبية إلى مدن وبلدات كحيفا وأم الفحم واللد وغيرها من المدن “الإسرائيلية” التي أريد لها أن تبقى خارج فلسطين أوسلو، بعد عقود على الاتفاقية المشؤومة التي قلصت فلسطين إلى حدود ضيقة يخترقها –فوق ذلك- سرطان المستوطنات.

التمدد الثاني هو استعادة القضية الفلسطينية لوهجها، فجأةً، بعدما تصدرت المآسي السورية والليبية والعراقية واللبنانية واليمنية على حسابها “بفضل” مجرمين من أمثال بشار الكيماوي، فكانت المقارنات المشروعة بين إجرامهم بحق شعوبهم والإجرام الإسرائيلي بحق الشعب الفلسطيني، فتفوقوا على إسرائيل وخدموا روايتها بشأن كونها “واحة” ديموقراطية متحضرة وسط صحراء الهمجية المحيطة بها. التعاطف الواسع في الرأي العام العربي والعالمي مع الفلسطينيين، في الجولة الحالية من الصراع، بما في ذلك قسمٌ من الرأي العام الإسرائيلي نفسه، هو أيضاً تمدد معنوي مهم بصرف النظر عن النتائج المباشرة التي يمكن توقعها. فالصراع غير متكافئ كما كان دائماً، وسينتهي لغير مصلحة الفلسطينيين كما كان دائماً. لكن ما حدث، إلى اليوم، يبقى ذو قيمة كبيرة، رمزياً واستراتيجياً، ولا بد أن يفرض نفسه على المعادلات السياسية في الفترة القادمة. على الأقل من حيث إزالة آثار الكارثة الترامبية في أبعادها الفلسطينية، من إضفاء شرعية على أسرلة القدس والاعتراف بها عاصمة لإسرائيل، والعربية المتمثلة في تطبيع عدد من الدول العربية البعيدة جغرافياً عن فلسطين مع دولة الاحتلال. من المحتمل، بهذا الصدد، أن يفرمل قطار التطبيع عند حدود الدول الأربع التي انخرطت فيها، وأن يتراجع جو التفاؤل الإسرائيلي – الأميركي بشأن “حلول السلام” بين العرب وإسرائيل.

لا شك أن القضية الفلسطينية في الوجدان الشعبي في البلدان التي دمرتها أنظمتها المجرمة، في سياق الرد الوحشي على موجة ثورات الربيع العربي، قد تعرضت لتآكل كبير في السنوات الماضية، بخاصة في سوريا التي تلقت نصيبها من الفلسطنة فتشرد نصف شعبها داخل الحدود وخارجها، وأصبح هناك “شتات سوري” كبير توزع في أرجاء المعمورة كحال الفلسطينيين تماماً، وقتل نحو مليون سوري بأسلحة النظام التقليدية والكيماوية والبرميلية، وقوض طيران النظام وصواريخه أكثر من نصف العمران، وباتت سوريا مقسمة ومحتلة من خمس دول.

وإذ سيطر الهدوء، عموماً، في فلسطين، في سنوات الربيع العربي، واقتصر العمل الفلسطيني ضد الاحتلال على صواريخ حركة حماس المدعومة إيرانياً، وترهلت السلطة الفلسطينية في الضفة الغربية في فسادها، لم يبق من القضية الفلسطينية في وجدان السوريين إلا ذكريات بعيدة مرتبطة، فوق ذلك، بخطاب الممانعة: فالطريق إلى القدس بات يمر، عند حسن نصر الله وربعه، من القصير وحمص ودرعا والزبداني وحلب حيث شارك حزب الله بنشاط في قتل السوريين خدمة لبقاء نظام بشار الكيماوي.

فقد قوّض سياق الربيع العربي كل الرواية الممانعة التي استثمرت القضية الفلسطينية طوال عقود، وكادت القضية نفسها تسقط، في الوجدان الشعبي المكلوم، مع الخطاب الممانع وأنظمته وميليشياته. ولم يقتصر الأمر على قوى المحور الشيعي وحده، بل تجاوزه إلى طيف واسع يقع خارجه أيضاً من حركات الإسلام السياسي السني، إلى معارضات علمانية واظبت على ترديد الرواية الممانعة نفسها بشأن فلسطين والقضية الفلسطينية، وإن كانت غير مستفيدة من الاستثمار السياسي لها كقوى محور الممانعة الأصلية.

أن تستعيد القضية الفلسطينية وهجها في الوجدان الشعبي، في هذه الشروط الجديدة، ينبغي أن يدفع باتجاه قراءات تزيل التعارضات المفتعلة بينها وبين قضايا الشعوب العربية التحررية. فالحرية قيمة لا تتجزأ، ولا يمكن لتحرر الفلسطينيين من الاحتلال أن يتعارض مع تحرر السوريين واللبنانيين والعراقيين والكرد والسودانيين وغيرهم. لذلك ليست خاطئة أو متسرعة تلك التحليلات التي ربطت الانتفاضة الفلسطينية القائمة بسياق استئناف ثورات الربيع العربي، ولا يقلل من شأنها الإرث التاريخي الخاص للانتفاضة الفلسطينية الممتدة من التسعينات إلى اليوم، ولا اختلافها النوعي عن ثورات الربيع بكونها ثورة تحررية ضد احتلال أجنبي. ففي سوريا أيضاً شعرنا بأن النظام الأسدي يتصرف تجاه السوريين كاحتلال أجنبي، وليس مجرد حكم دكتاتوري، قبل أن تأتي الجيوش الروسية والأميركية والتركية والميليشيات الإيرانية. وفي لبنان نلاحظ القطيعة النفسية ذاتها بين اللبنانيين وأهل الحكم.

لا أحمل تفاؤلاً غبياً لأتوقع انتصاراً فلسطينياً، ولست ممانعاً مغرضاً لأحدد مواعيد قريبة لتحرير القدس كما صرح خامنئي قبل فترة. فلا الفلسطينيون يملكون سلاحاً قادراً على الانتصار على الآلة العسكرية الإسرائيلية، ولا المجتمع الدولي سيسمح بهزيمتها. والشبان الفلسطينيون يدركون اختلال موازين القوى الباهظ هذا، ويعرفون حدود ما يمكن أن يحققوه. ما حدث في القدس وأرجاء فلسطين، كبير، مع ذلك، وسيترك بصمة قوية على مستقبل الصراع.

أما النقاش حول صحة دخول حركة حماس، بصواريخها، على خط الصراع من عدمه، فهذا من شأن الفلسطينيين وحدهم.

Exit mobile version