اندريه قصاص -لبنان24
على مدى سنوات طويلة خبر اللبنانيون جيدًا كيف تتعاطى باريس مع قضاياهم. بالتأكيد لم تسمح السلطات الفرنسية، على مرّ التاريخ الحديث، بأن يكون تعاطيها مع الأزمة اللبنانية على الطريقة “اللبنانية”. ففرنسا دولة لها علاقاتها الخارجية، ولها مصالحها الإسترتيجية في المنطقة، ولها إتصالاتها مع جميع الأطراف اللبنانية. ولذلك فهي تقيس الأمور بميزان دقيق غير قابل للخطأ. فبعد خيبات الأمل والجو التشاؤمي في الدوائر الفرنسية، وبعد عودة وزير الخارجية جان إيف لودريان من بيروت، تعيش باريس أجواء إنزعاج وامتعاض من الطريقة التي تم فيها التعامل مع هذه الزيارة، خصوصًا بعد الإنتقادات، التي لم توفر لا شكل الزيارة ولا مضمونها، مع ما تركته طريقة إنتقاء شخصيات وقوى المعارضة في لقاء “قصر الصنوبر”، واستثناء البطريرك الماروني من برنامج اللقاءات، من إنطباعات غير مريحة.
وأكثر ما استفز الفرنسيين وأثار حفيظتهم هو التقييم السلبي الذي صدر عن أوساط لبنانية كثيرة بشأن ما آلت إليه المبادرة الفرنسية، وخلاصة هذا التقييم أن لودريان نعى المبادرة ودفنها في بيروت، وأن باريس تخلّت عن مبادرتها في لبنان وسحبت يدها ورمت المسؤولية كاملة على الطبقة السياسية في لبنان.
وفي مواجهة هذه الأجواء والإنطباعات اللبنانية التي انتشرت على نطاق واسع، تحرص باريس على تبديد ما تعتبره إنطباعات خاطئة، وتؤكد أنها لم تتخّل عن لبنان، وما زالت ماضية في متابعة أوضاعه ولكن وفق مقاربة جديدة ومنهج مختلف عما طرحته في المرحلة الأولى من مبادرتها.
المقاربة الجديدة تعني، واستنادا الى ما كشفته زيارة لودريان، أن باريس تستخدم ورقتين أساسيتين ومتوازيتين وتراهن عليهما لتطويع الأزمة اللبنانية وإحداث خرق وتغيير في الوضع القائم المختصر بأربعة عناوين: إنسداد الأفق السياسي، الإنهيار الإقتصادي، الإنفجار الإجتماعي، الخطر الأمني.
الورقة الأولى، هي ورقة العقوبات ضد طبقة سياسية تدفع لبنان الى “الإنتحار الجماعي”، بعدما فقدت باريس صبرها إزاءها. وعمدت لذلك وفي خطوة أولى الى فرض قيود على دخول سياسيين الى أراضيها، إن بسبب فسادهم أو بسبب إعاقتهم تشكيل الحكومة. ولم يكشف الجانب الفرنسي عن الأسماء المعنية لأسباب تكتيكية، ولكنه يبقي سيف العقوبات مصلتًا، ويسعى الى إستخدامٍ متشددٍ لعصا العقوبات، عبر فرض عقوبات إضافية والإستمرار في دفع جهود الإتحاد الأوروبي الى الأمام من أجل التوافق على عقوبات أوروبية جماعية بحق المسؤولين اللبنانيين الذين يعيقون الخروج من الطريق المسدود الراهن.
الورقة الثانية هي ورقة الإنتخابات المقبلة والرهان عليها لتجديد الطبقة السياسية. وهذه كانت رسالة واضحة بعث بها لودريان من خلال لقائه مع قوى وشخصيات المجتمع المدني، وبالتالي أعلن خطة الإنتقال من مرحلة التعاطي مع الطبقة السياسية الى مرحلة التحضير لـ”طبقة سياسية بديلة”، والإنتقال من علاقات فاشلة ومستنفدة مع الجيل السياسي “القديم” الى بناء علاقات جديدة مع الجيل الجديد والنخب الشابة الصاعدة.
فرهان فرنسا على “العقوبات والإنتخابات” في إطار مقاربتها الجديدة للأزمة في لبنان، في رأي مصادر دبلوماسية لبنانية، رهان صحيح من الوجهة النظرية، ولكنه بعيد عن الواقع من الناحية العملية. فالعقوبات إذا ظلت فرنسية بحتة لن يكون لها أي تأثير معنوي، في حين أن تحّولها الى عقوبات أوروبية صعب التحقيق بفعل التردد الذي تبديه دول عدة في الإتحاد الأوروبي وعدم توافر إجماع عليها.
ومن هنا، فإن المناقشات الدائرة داخل الإتحاد الأوروبي التي بدأت في 23 آذار الماضي يمكن أن تمتد إلى أسابيع إضافية، قبل أن ترسو على تفاهمات قابلة للتنفيذ.
أما الرهان على الإنتخابات المقبلة مع منظمات في المجتمع المدني وشخصيات حزبية معارضة فإنه رهان محفوف بالمخاطر بسبب التركيبة السياسية اللبنانية الطائفية ـ الحزبية، وقدرة الأحزاب الكبرى على إعادة إنتاج نفسها.
أمام هذا الواقع يبدو أن باريس، وعلى رغم العراقيل الموضوعة في طريق مبادرتها، مصمّمة على خرق الحاجز اللبناني، وهي لن تتراجع، وسيكون لها تعاطٍ مغاير، يُعتقد أنه سيؤدي إلى نتائج قريبة.