قاسم قصير
تستمرّ السفارة الأميركية في منطقة عوكر بأعمال بناء مبناها الجديد، الذي سيكلّف حوالي مليار دولار، بحسب المصادر الدبلوماسية الأميركية. وفي المقابل أوشكت أعمال بناء مبنى السفارة الإيرانية في منطقة بئر حسن على الانتهاء. ويعتبر هذا المبنى من أضخم المباني التي اعتمدتها الجمهورية الإسلامية الإيرانية لسفارتها في بيروت منذ أربعين سنة.
ولا تكتفي أميركا أو إيران بنشاطهما في لبنان من خلال البعثة الدبلوماسية الرسمية فقط. فأميركا لها نشاط ونفوذ في لبنان من خلال عدد كبير من الوكالات والمؤسسات والهيئات المتنوّعة، إضافة إلى العلاقات الواسعة التي تربط أميركا بالقوى السياسية والحزبية ومؤسّسات المجتمع المدني، وبالجيش اللبناني وقوى الأمن الداخلي والأجهزة الأمنية.
وفي المقابل لإيران امتداد كبير في لبنان عبر علاقتها المميّزة بحزب الله، من خلال عشرات المؤسسات المتنوّعة الثقافية والفكرية والتعليمية والهيئات السياسية والحزبية والدينية.
لكن كيف تقارب أميركا وإيران اليوم الوضع اللبناني في ظل هذه المرحلة، وفي موازاة العودة إلى المفاوضات النووية في فيينّا؟ وهل ينعكس التفاهم الإيراني – الأميركي على لبنان إيجاباً؟ أم يبقى لبنان ساحة للصراع الإيراني – الأميركي في المرحلة المقبلة؟ وما هي أشكال الصراع القائم اليوم؟
الوثيقة الأميركية حول لبنان
كي نفهم الرؤية الأميركية للوضع اللبناني اليوم، نستعيد وثيقة دبلوماسية أعدّتها وزارة الخارجية الأميركية حول دور البعثة الدبلوماسية الأميركية في بيروت، وأهمّ ما جاء فيها هو التالي:
عرضت الوثيقة معلومات عن فريق عمل السفارة الأميركية في بيروت، وكيفيّة توزع الأعمال والمسؤوليات، وشرحت الأوضاع السياسية والاقتصادية في لبنان خلال هذه المرحلة، والأوضاع الصعبة التي يواجهها لبنان أمنيّاً واقتصادياً وسياسياً. وأظهرت حجم المساعدات الأميركية للبنان، ولا سيّما منذ عام 2006. وهي تقدّر بمليار وتسعمائة مليون دولار أميركي خُصِّصت للجيش اللبناني وقوى الأمن الداخلي. وأكّدت الوثيقة أهمّية لبنان الاستراتيجية لأميركا، خصوصاً في مواجهة تنظيم داعش ونفوذ إيران وحزب الله. ثمّ حدّدت أهمّ الملفّات التي تسعى إليها الاستراتيجية الأميركية في لبنان، وهي التالية:
أوّلاً: مساعدة مؤسسات الدولة اللبنانية الضعيفة، ولا سيّما الأجهزة العسكرية والأمنية من أجل تعزيز سلطات الدولة ومواجهة الإرهاب والتطرّف.
ثانياً: مواجهة نفوذ حزب الله السياسي والتدخّلات الخارجية والانقسامات الدينية والسياسية.
ثالثاً: تنفيذ الإصلاحات المالية والاقتصادية، وإصلاح المؤسسات العامة لحماية الاستقرار الاجتماعي والاقتصادي.
رابعاً: دعم التنمية الاقتصادية وبرامج الصمود المحلّيّة، والتخفيف من آثار أزمة اللاجئين السوريين في لبنان.
خامساً: تعزيز التواصل مع مختلف فئات المجتمع اللبناني، وتسليط الضوء على أهمية المساعدات الأميركية للبنان، وتعميق الروابط مع المجتمع المدني.
كيف تقارب أميركا وإيران اليوم الوضع اللبناني في ظل هذه المرحلة، وفي موازاة العودة إلى المفاوضات النووية في فيينّا؟ وهل ينعكس التفاهم الإيراني – الأميركي على لبنان إيجاباً؟ أم يبقى لبنان ساحة للصراع الإيراني – الأميركي في المرحلة المقبلة؟ وما هي أشكال الصراع القائم اليوم؟
وتطرّقت الوثيقة بشكل مفصّل إلى كل الأهداف، التي يسعى الأميركيون إلى الوصول إليها، والآليات التطبيقية والعملانية والرؤية الخلفية والسياسية لهذه الأهداف. ويمكن الإشارة إلى نقاط أساسية حظيت بتركيز خاصّ عليها، وهي:
1- بناء قدرات الجيش اللبناني ليكون القوّة الشرعية الوحيدة، ودعم قوى الأمن الداخلي.
2- دعم مؤسسات الدولة كافّة، ومواجهة دور حزب الله ونفوذه.
3- تحصين قوى الأمن اللبناني كي تكون قادرةً على مواجهة التهديدات الإرهابية والإجرامية.
4- دعم مؤسسات المجتمع المدني كي تقوم بدورها الفعّال في كلّ المجالات، خصوصاً قضايا حقوق الإنسان وتعزيز الحكم الرشيد.
5- تطبيق القرارات الدولية 1559 و1680 و1701، ودعم الحكومة لمواجهة النفوذ الخارجي، وخصوصاً النفوذ الإيراني.
6- التشجيع على إجراء انتخابات ديموقراطية، وقيام مؤسسات حكومية فاعلة وشفّافة.
7- التواصل مع جميع أفراد المجتمع اللبناني وبكلّ الوسائل المباشرة والإعلامية التقليدية وغير التقليدية لشرح سياسات أميركا، ونشر الثقافة الأميركية، ودعم العلاقات الثنائية بين لبنان وأميركا.
8- تطوير الاقتصاد اللبناني لمواجهة مختلف التحدّيات، والاهتمام بقضايا غسل الأموال، وتمويل الإرهاب.
9- تحسين الظروف الاجتماعية والاقتصادية للاجئين، وتوفير الرفاهية والحماية لهم.
وفي الختام تحدّثت الوثيقة عن استكمال بناء السفارة الأميركية، الذي يكلّف مليار دولار. وبانتظار الانتهاء من بنائه، لفتت الوثيقة إلى تطوير المباني الحالية، ومعالجة الشواغر في الجسم الإداري والدبلوماسي، وتطوير أداء أعضاء البعثة.
ومن يراقب أداء البعثة الدبلوماسية الأميركية اليوم يلحظ الالتزام التامّ بهذه الوثيقة عمليّاً.
استراتيجية إيران في لبنان
أمّا على الصعيد الإيراني فنجد العديد من الوثائق والدراسات الرسمية وغير الرسمية، التي تتحدّث عن طبيعة هذا الدور في لبنان، وإن كانت معظم هذه الدراسات والمقالات والأبحاث تركّز اليوم على علاقة إيران بحزب الله، وتعتبر أنّ أهمّ استثمار لإيران في لبنان كان دعمها لحزب الله خلال الأربعين سنة الماضية.
وتبيّن هذه الوثائق دعم إيران لعشرات المؤسسات الاجتماعية والثقافية والتربوية والاقتصادية، ومساحتها في إعمار لبنان بعد عدوان عام 2006، إذ بَنَت المؤسسات الإيرانية وطوّرت العديد من الأوتوسترادات والطرق السريعة في الجنوب والبقاع. وتظهر أيضاً نشاط إيران في السنوات الأخيرة في المجالات الثقافية والتجارية والتربوية والإعلامية. وتشكّل المستشارية الثقافية للجمهورية الإسلامية الإيرانية في بيروت إحدى المؤسسات الناشطة في لبنان اليوم، على الرغم من تعرّض السفارة والمستشارية للتفجير في السنوات الماضية، ولذلك اعتمدت السفارة إقامة مبنى ضخم وجديد في منطقة بئر حسن.
تحدّثت الوثيقة عن استكمال بناء السفارة الأميركية، الذي يكلّف مليار دولار. وبانتظار الانتهاء من بنائه، لفتت الوثيقة إلى تطوير المباني الحالية، ومعالجة الشواغر في الجسم الإداري والدبلوماسي، وتطوير أداء أعضاء البعثة
وقد نشرت “مجلة الدراسات الإيرانية”، الصادرة عن “المعهد الدولي للدراسات الإيرانية في السعودية”، دراسة مهمّة عن دور إيران في لبنان. وعلى الرغم من أنّ الدراسة اعتمدت مصادر ودراسات أميركية وعربية ولبنانية معارضة للحزب وإيران، لكنّها قدّمت مجموعة معطيات حول الدور الإيراني الذي يتركّز على النقاط التالية:
أوّلاً: تعزيز الحضور السياسي الإيراني في لبنان، والاستفادة القصوى من المشاركة السياسية لحزب الله، إضافة إلى العلاقة القوية مع الطائفة الشيعية بكلّ مكوّناتها.
ثانياً: تعزيز الحضور الاقتصادي الإيراني في لبنان، وقد زاد الدور الإيراني بعد العدوان الصهيوني في عام 2006 حتّى اليوم.
ثالثاً: الدور العسكري والأمني لإيران في لبنان، الذي تطوّر بشكل كبير منذ الاجتياح الإسرائيلي للبنان عام 1982، وحضور الحرس الثوري الإيراني إلى لبنان. مع الإشارة إلى أنّ الحضور الإيراني في لبنان سبق هذا التاريخ، ولم يقتصر على العلاقة بحزب الله.
مشروعان متعارضان
في الخلاصة لبنان أمام مشروعين متعارضين. فأميركا تريد مواجهة الحزب وإيران في لبنان، في حين أنّ إيران تدعم الحزب وتعمل من أجل تعزيز دوره وموقعه، إضافة إلى أنّ إيران تعمل على مشروع متكامل لتعزيز حضورها في لبنان.
ويبقى السؤال أخيراً: هل تؤدّي عودة المفاوضات النووية بين إيران وأميركا إلى تفاقم هذا الصراع أم تشكّل مدخلاً إلى تهدئة المواجهة؟
هذا السؤال يحتاج إلى مقاربة مفصّلة لاحقاً، لكن على الأقلّ لا بدّ من الإشارة إلى أنّ من الشروط الأميركية والغربيّة للعودة إلى الاتفاق النووي مع إيران تقليصَ دورها في المنطقة وتقليص دعمها لحلفائها، في حين أنّ إيران ترفض ذلك، وترى أنّ العودة إلى الاتفاق النووي ستدعم إيران وحلفاءها في المنطقة.
إذن سيكون لبنان ساحة للمواجهة المستقبلية بين إيران وأميركا، وحجم السفارتين في عوكر وبئر حسن يؤكّد أهمية لبنان لهذين البلدين، وحجم المواجهة المستقبلية بينهما على دوره ومستقبله.