ليس ثمّة في التاريخ، كلّ التاريخ، قضية عجز الزمن عن معالجتها أو تفكيكها أو تطويقها. يمضي جيلٌ بعد جيل بعد جيل. تسلك القضية، مهما عظمت، درب استنزافها وضمورها، لتستحيل في أحسن النهايات، مجرّد ذكرى في وجدان أهلها وفي كتب تاريخهم وفي أقاصيص جدّاتهم المِلاح. عادة الناس أن تنسى. تحلُّ بهم الفواجع وتمضي. تقضّ مضاجعهم. تُبعثر سكينتهم. تُحطّم أحلامهم. لكنّها تمضي. الوقت كفيل بذاك. يأخذ على عاتقه مهمّة الترويض. ويترك للمثلومين، مؤمنين كانوا أم حيارى، أن يستسيغوا هذا الضيم وأن يعتادوه. بل وأن يستسلموا راغبين أو مرغمين لقدر مُرّ أو لواقع يفوقه مرارة.
وحدها فلسطين، بكبوتها ومظلوميّتها وقضيّتها وتاريخها وإرثها وأهلها وموقعها وحساسيّتها، تأبى أن تسلك دروب النسيان. كدنا نظنّ، وقد ظنّ غيرنا، أنّ الواقعية أشدّ فتكاً وأبلغ وقعاً وأكثر تأثيراً من الحقّ ومن الحقيقة، وأنّ الهزيمة تلو الهزيمة تلو الهزيمة، وأنّ الاستسلام تلو التنظير، ستساهم على نحو عميق في تصنيع رأي عامّ جديد، وفي إعادة رصف الوعي الجماعي على نحو مختلف. لكنّ حدثاً مستجدّاً، لا يتّخذ أيّ طابع استثنائي، في حيّ صغير من أحياء القدس، أعاد الفلسطينيّين، ومعهم العرب والعالم، إلى عشيّة النكبة. تماماً كما لو أنّ فلسطين تُغتصب لتوّها.
المدهش، بل الأكثر إدهاشاً، يكمن تحديداً في الاندفاعة المفاجئة للجيل الجديد. هؤلاء الشباب الذين لم يشهدوا ولم يُعايشوا المخاضات الكبرى، ولم يشاركوا في أيّ اشتباكات مباشرة، بل لم يتعرّفوا إلى القضية ولم يعرفوها على النحو الذي يتيح لهم التحرّك بهذه الغيرة والفعّاليّة. وهذا ما ينطبق بشكل واضح ومكثّف على الشباب الفلسطينيّ في الداخل وفي دول الانتشار، كما ينطبق تماماً على عموم الشباب العربي الذي يعاني أساساً من أزمات محليّة غير مسبوقة، ولا سيّما في دول الطوق، وفي الدول التي وقّعت السلام منذ عقود طويلة.
وحدها فلسطين، بكبوتها ومظلوميّتها وقضيّتها وتاريخها وإرثها وأهلها وموقعها وحساسيّتها، تأبى أن تسلك دروب النسيان
قفزت فلسطين فوراً إلى المقدّمة. عادت لتتصدّر كلّ عناوين العرب. بعد سنوات من ترسّخ الاعتقاد الجماعيّ الخاطئ بتصفية القضيّة وانتقالها إلى خارج جدول الاهتمام والأولويّات. مصر وقّعت سلاماً منذ عقود، لكنّ تاريخها وحاضرها ووجدان شعبها وشبابها وتصرّف دولتها في مكان مختلف. كذلك هي الحال في كل الدول التي سلكت درب السلام والتطبيع. والمزاج نفسه في العراق، وفي سوريا الجريحة، وفي لبنان المعذّب،. كلّ شيء ذهب فجأة أدراج الرياح. وبقيت الحقيقة الساطعة التي ما لبثت أن انتشرت كالنار في الهشيم عند أوّل شرارة في معركة القدس.
لا مجال هنا للتحليل وللمطالعات السياسيّة والاستراتيجيّة. ولا مجال أيضاً لربط الحدث بما قد يتّصل بمفاعيله وتداعياته في المنطقة وفي الإقليم والعالم. ثمّة تطوّر جديد نسف كلّ النظريّات، ومفاده أنّ إسرائيل كانت وستبقى كياناً غاصباً غير قابل لحياة طبيعيّة مع محيطه، وأنّ الشعوب المقهورة من طنجة إلى عدن، بل من سواحل الهند إلى شواطئ المغرب، لا بدّ أن تعود على نحو مباغت إلى قضيّتها الأمّ، مهما حاولوا تخديرها وتطويعها وتدجينها.
قفزت فلسطين فوراً إلى المقدّمة. عادت لتتصدّر كلّ عناوين العرب. بعد سنوات من ترسّخ الاعتقاد الجماعيّ الخاطئ بتصفية القضيّة وانتقالها إلى خارج جدول الاهتمام والأولويّات
وجه فلسطين اليوم هو الوجه الأبهى والأنصع والأجمل والأكمل لأهل الأرض وأهل القضيّة وأهل الصبر وأهل الاحتساب. هي سرديّة الأحرار. الحكاية التي يتوارثها جيلٌ بعد جيل بعد جيل. هؤلاء الشباب الذين يتصدّرون مشهديّتها لم يعايشوا ياسر عرفات، “الختيار” المتمرّد المجبول بتراب فلسطين. ولم يعايشوا أحمد ياسين وعبد العزيز الرنتيسي وفتحي الشقاقي وخليل الوزير وصلاح خلف. لكنّهم حملوا مشعلهم وتقدّموا كلّ الصفوف، بعدما خُيِّل لناظرهم أنّ ما مضى قد بات فعلاً ماضياً مضى.
هذه قضيّة لن تموت. هكذا قالوا جميعاً بصوت مزلزل. لا بسلام ولا بصفقة قرن أو قرون. وهذه قضيّة لن تُسرَق. هكذا قالوا أيضاً. لا من أنظمة ديكتاتوريّة ولا من مشاريع سلطويّة أو توسّعية. فلسطين هي البوصلة، وهي العنوان الذي يتجاوز كلّ العناوين. هي اللبنانيّ الذي تنفّس معها الصعداء وهو في خضّم أزمته الوجوديّة. وهي بيروت توأم الدمّ ورفيقة السلاح. وهي السوريّ الذي انسلخ كرمى عيونها عن واقعه وشتاته ومظلوميّته. وهي المصريّ الذي كان وسيبقى حجر زاويتها وقطب رحاها. وهي كلّ عربي ارتعدت لأجلها فرائصه، ثمّ راح يتماهى مع أهلها وانتفاضتهم ومقاومتهم، وكأنّهم التجسيد الأدقّ لذاته ووجدانه وعميق كرامته.
ما نشهده الآن هو درسٌ هائل. درسٌ برسم الجميع. لا بدّ من تأمّله وتمحيصه وتدقيقه، لأنّه الحقيقة الوحيدة والمجرّدة، وما دون ذلك أوهامٌ وأضغاث أحلام.