أنطـوان شلحـت
وضعت حادثة الاكتظاظ والتدافع التي وقعت في جبل الجرمق في أواخر نيسان الفائت وأودت بحياة 45 شخصاً من اليهود الحريديم المتشددين دينياً وتسببت بإصابة العشرات منهم بجروح، على نار حامية من الجدل قضيتين نتطرّق إليهما بتوسع في مواد هذا العدد من “المشهد الإسرائيلي “، وهما: مكانة اليهود الحريديم في الكينونة الإسرائيلية الراهنة، ودور لجان التحقيق المتعددة في إسرائيل، ولا سيما لجان التحقيق الرسمية.
وبخصوص القضية الأولى، وهي الأكثر أهمية، برزت على نحو خاص المقاربة الذاهبة إلى أن الحريديم باتوا في الآونة الأخيرة يحظون بحكم ذاتي آخذ بالترسخ إلى حد اعتبارهم بمثابة دولة داخل دولة، وقارن البعض بين هذه الدولة داخل الدولة ودول أخرى داخلها، على غرار دولة المستوطنين في الأراضي المحتلة منذ 1967 وغيرها.
في واقع الأمر، يركّز أصحاب هذه المقاربات على المخاطر الناجمة من مظاهر تبدو أقرب إلى ممارسة الدولة داخل الدولة. وعندما يرتبط الأمر بالحريديم يتم في جُلّها تحميلهم المسؤولية الكاملة عن هذا المآل الذي يكاد أن يتحوّل إلى صيرورة. وفي الوقت عينه يمكن العثور على مقاربات تؤكد أن من رعى الحكم الذاتي للحريديم كان حكومات إسرائيل على مرّ أجيالها وأطيافها، وذلك عبر قيامها باستغلال هذا الحكم الذاتي من أجل الدفع قدماً بنزواتها والبقاء في سدّة الحكم، وعن طريق استثمار أموال طائلة في شراء مقاعد الحريديم المستعدين للمشاركة في أي مؤامرة في مقابل مغريات إما نقدية أو على شكل قوانين تعود بالمنفعة عليهم.
ولا شك في أن تسليط الضوء على الحريديم نتيجة لهذه الحادثة من شأنه أن يعيد إلى واجهة الأحداث في إسرائيل آخر المستجدات المتعلقة بهم في حلبة السياسة الإسرائيلية، ولا سيما فيما يختصّ بجذور عملية ميلهم نحو اليمين وتحولهم إلى “شركاء طبيعيين” له ولزعيمه خلال العقد الأخير، بنيامين نتنياهو، وكذلك فيما يتعلق بمواقفهم العامة سواء حيال الصهيونية و”أرض إسرائيل” أو إزاء دولة إسرائيل.
وهي جذور تعود أكثر شيء، وفقاً لبعض التحليلات، إلى ما عرف باسم “الانقلاب” الذي حققه مناحيم بيغن في العام 1977 وتأدّى عنه صعود حزب الليكود إلى كرسي الحكم، وفي إثره عاد الحريديم إلى مقاعد الائتلافات الحكومية الوثيرة، ومنذ ذلك الوقت شرعوا يعتبرون بيغن بمنزلة “المخلّص القومي” الذي أنقذهم وجعلهم حلفاء، بقدر ما بدأوا يرون أنفسهم أكثر قرباً إلى اليمين الإسرائيلي الذي أعاد لهم الاحترام والمجد، اللذين ظلوا يتمنونهما طوال أكثر من ربع قرن من الزمن.
ومع أن كثيرين من المحللين يحاولون الادعاء بأن الجمهور الحريدي هو جمهور يمينيّ، فإن كثيرين غيرهم يرون أن هذا الادعاء ليس دقيقاً، وأن ثمة لدى الجمهور الحريدي معايير واعتبارات أخرى يقرر، بموجبها، الانضمام إلى الحكومة أو عدم الانضمام، وأن اليمين واليسار ليسا من بين أهم هذه الاعتبارات والمعايير، والحكومات التي تتصرف بعطف وتفهم تجاه الحريديم وتعترف بحاجاتهم هي التي تفوز بأصواتهم.
ويلفت هؤلاء الأخيرون، مثلاً، إلى أن الحريديم لم يتركوا الائتلاف الحكومي بسبب إخلاء يميت (مستوطنة إسرائيلية في شبه جزيرة سيناء) في إطار معاهدة السلام المُبرمة بين إسرائيل ومصر، أو بسبب إخلاء مستوطنات “غوش قطيف” (المستوطنات الإسرائيلية في قطاع غزة) في نطاق “خطة الانفصال” عن القطاع، ولا حتى بسبب هذه الخطة السياسية أو تلك، وإنما ـ بالأساس ـ بسبب المساس بمعتقداتهم الدينية، كما حدث مع حكومة إيهود باراك (1999- 2001) على سبيل المثال. فلا اليمين ولا اليسار هما ما يعني الحريديم ويؤرقهم، بل إن ما يعنيهم أكثر من أي شيء آخر هو استمرار المحافظة على الطابع اليهودي في الحياة العامة وفي الحيّز العام، بالإضافة إلى استمرار الحفاظ على ميزانيات المدارس الدينية (ييشيفوت) ومخصصات الأولاد.
وينوّه هؤلاء كذلك بأن هذا لا يعني أن الحريديم سيصوتون غداً إلى أحزاب يسارية، لكن ليس ثمة مشكلة بينهم وبين اليسار كيسار بصورة جذرية، مثلما أنهم غير منتشين باليمين كيمين. فاليمين جيد لهم حين يكون معهم، واليسار قد يكون ممتازاً لهم حين يكون إلى جانبهم. وبكلمات أخرى: الحريديم يحبون “أرض إسرائيل”، لكنهم ليسوا مُولَعين بالدولة. بل إن البعض يضيف إلى ما تقدّم القول بأن جميع الحريديم يلتقون فيما بينهم على محبة “أرض إسرائيل”، كل على طريقته، إذ يرون فيها أرض آبائهم، لكنهم لا يقدسون الصهيونية، أكثر من أنها تتيح لهم إمكان العيش وفق نمط الحياة الذي يريدون، برفاهية وحرية.
عند هذا الحد ربما ينبغي أن نعيد إلى الأذهان أن توقعات المكتب المركزي الرسمي للإحصاء في إسرائيل تشير إلى أن الحريديم سوف يشكلون 32% من مجموع السكان في إسرائيل حتى العام 2065، ما يعني من بين أمور أخرى أن عدد أعضاء الكنيست الممثلين لأحزاب الحريديم سيزداد بمقعدين اثنين في كل أربع سنوات، بموجب التوقعات. ولعل هذا الأمر وحده قد يكون كافياً ليكفل إمكان كبح أي مواجهة صارمة لظاهرة الدولة دواخل الدولة في المدى المنظور.