سجلت الأيام الأخيرة صعوداً في نشاط الحركات الإسرائيلية اليمينية المتطرفة لتغيير “الوضع القائم” في القدس المحتلة مستمدة التشجيع من نشاط القوات الأمنية ضد أهالي المدينة. وتسبّب هذا الصعود، من ضمن أمور أخرى، بإعادة نشاط منظمة “لاهافا” إلى صدارة العناوين بالتوازي مع استعادة أجندتها المخصوصة، التي نتوقف عندها في هذا العدد من المشهد الإسرائيلي بجانب التوقف عند معاني ودلالات ما يعرف بـ”الوضع القائم” فيما يتعلق بالقدس، وعند جوهر ما تسعى إسرائيل إليه من وراء نيتها تغييره.
وبقدر ما إن هذا “الصعود” يُعتبر مرتبطاً بالتحولات التي خضعت لها إسرائيل في الأعوام الأخيرة، ولا سيما خلال أعوام عهد بنيامين نتنياهو في رئاسة الحكومة الإسرائيلية منذ أكثر من عقد، بقدر ما إنه يتغذى من حقيقة أن العنصرية في إسرائيل بنيوية.
وسبق لنا أن لاحظنا، مرات كثيرة، أن مسألة التشديد على السمة البنيوية للعنصرية الإسرائيلية تُشكّل قاسماً مشتركاً لجلّ المبادرات المتعدّدة التي ترمي إلى مواجهتها.
وللتمثيل على تلك السمة كان الأديب الإسرائيلي سامي ميخائيل، رئيس “جمعية حقوق المواطن”، قد توقف في أحد الكتب الصادرة عن الجمعية عند سيرورتي التطوّر في ما يتعلق بقضية العنصرية واللتين شهدتهما الولايات المتحدة وإسرائيل بصفتهما دولتين كانت فيهما منذ تأسيسهما عنصرية وفجوات اجتماعية عميقة، وقارن فيما بينهما. وخلال هذه المقارنة نوّه إلى أنه فيما يخصّ قيمة المساواة، لا تزال في إسرائيل نزعة متأصلة نحو التمسّك بالنظرية التي ترى أن “الغير” أدنى. وقد شمل ضمن هذا “الغير” كل من هو “غير يهودي” و”غير أشكنازي”.
وقبل ثمانية أعوام كتبت عالمة الاجتماع الإسرائيلية إيفا إيلوز مقالة مطوّلـة حلّلت فيها أسباب تحوّل إسرائيل إلى دولة عدوانية وعنصرية، وخلصت إلى استنتاج فحواه أن العنصرية باتت بنيوية. وقد استهلتها بالإشارة إلى أن 800 ألف شخص شاركوا، في تشرين الأول 2013، في مراسم دفن الحاخام عوفاديا يوسف (الزعيم الروحي لحزب شاس الحريدي والحاخام السفارادي الأكبر السابق لإسرائيل) وأثنى الساسة من كل الأحزاب والكتل البرلمانية عليه. وقالت إنه في العام 2010، عندما كان يوسف لا يزال كما هو على مرّ أعوام طويلة، أي ماكينة سياسية فائقة القوة وذات تأثير واسع في السياسة والمجتمع في إسرائيل، تحدث في إحدى عظاته الأسبوعية عن العمل الذي يؤديه يهود وأغيار في يوم السبت، فقال: “لم يولد الأغيار إلا لخدمتنا، وتلبية حاجاتنا. وإذا لم يكن كذلك، فلا مكان لهم في العالم. (إنهم موجودون) فقط من أجل خدمة شعب إسرائيل”. وحتى تكون النقطة واضحة أكثر، أضاف يوسف: “لماذا ينبغي للأغيار أن يعيشوا؟ إنهم سيعملون، سيحرثون، سيزرعون وسيحصدون. ونحن نجلس كأفنديين ونأكل”.
وتابعت إيلوز أن ملاحظات يوسف هذه يتبناها حاخامون كثر وجمهور كبير من أنصار شاس وقطاعات أخرى في المجتمع الإسرائيلي، من شرقيين وأشكناز. وعدا عن الملاحظات ذاتها يجدر التوقف عند قراءة الإعجاب بيوسف وأفكاره، ومقارنته بأي بريطاني أو فرنسي أو عربي يطلق مثل هذا الكلام على اليهود وكيف كان سيثير الاشمئزاز، ولكن هذا الرجل الذي أطلق الكثير من الأوصاف المثيرة ضد غير اليهود نال الجوائز والثناء والقبول الصامت أو اللامبالاة من جانب المجتمع الإسرائيلي واليهود في العالم.
وحاججت إيلوز الذين يبررون العنصرية الإسرائيلية بالقول إن العرب أو الأتراك يتعرضون أيضا إلى التمييز في فرنسا أو ألمانيا، وإن إسرائيل ليست أسوأ من مثل تلك الدول، وقالت: إن العنصرية التي مصدرها السكان تختلف عن العنصرية التي مصدرها قوانين الدولة (أي البنيوية). وأكدت أنه عندما يرسخ مثل هذا التناسب يسهل تسويغ العنصرية. لكن ما يتعيّن الانتباه له هو أنه بعد مأسسة العنصرية والمصادقة عليها من جانب الكيان الأقوى – الدولة- فإن القيم العامة ضد العنصرية تضعف كثيراً. وبرأيها، بينما تبدو معارضة العنصرية وحماية حقوق الإنسان في إسرائيل كما لو أنها “مواقف يسارية متطرفة”، فإنها في الدول الليبرالية مجرد قيم أساسية مشتركة لليسار واليمين على حدّ سواء.
ويعتقد سامي ميخائيل أن التصريحات التنميطية التي يُطلقها مصممو الرأي العام ذات تأثير كبير في تجذير العنصرية في إسرائيل، وأنه ليس المروّج للعنصرية فقط مسؤول عن زرع بذور الفتنة، وإنما يشاركه في المسؤولية أولئك الذين يُنكرون وجود جريمة العنصرية.
قبل ميخائيل وإيلوز، اللذين نستعيدهما هنا كنموذجين من نماذج كثيرة غيرهما، ندّد البروفسور شلومو ساند، أستاذ التاريخ المعاصر في جامعة تل أبيب، في كتابه “كيف لم أعد يهودياً؟” (صدرت ترجمته العربية عن منشورات “مركز مدار”) بعنصرية إسرائيل اليهودية مؤكداً أنه واع جيداً لحقيقة كونه يعيش في واحد من أكثر المجتمعات عنصرية القائمة في العالم الغربي، الذي تتباهى إسرائيل بالانتساب إليه. ورأى ساند أن العنصرية موجودة في كل مكان من العالم تقريباً، لكنها في إسرائيل غدت بنيوية بروح القوانين التي جرى ويجري سنّها، ونظراً إلى كونها تُدرّس في جهاز التربية والتعليم، ومنتشرة في وسائل الإعلام. ووفقاً قراءته، فالأمر المروّع أكثر من أي شيء أن العنصريين في إسرائيل لا يعرفون أنهم كذلك، ولا يشعرون أبداً بوجوب الاعتذار.
أنطـوان شلحـت