زياد عيتاني -أساس ميديا
قصدتني صديقة محامية من قرية “كبة” الشمالية طالبةً منّي أن أساعدها في التعرّف على تاجر للمجوهرات قادر على مساعدتها في بيع عدة كيلوغرامات من الذهب. وعندما سألتها عن مصدر هذه الكمّية من الذهب، قالت إنّها تعود لصديق أجنبي حصل عليها من إحدى الدول المنهارة، ويريد أن يبيعها من خلال صديق لي يعمل في محلّ للمجوهرات بمنطقة مار إلياس في بيروت. فاتّصلت بصديقي وسألته إن كان صاحب المؤسسة التي يعمل فيها قادراً على شراء كمية كهذه، فاستمهلني للاستفسار.
في اليوم التالي اتّصل بي صديقي قائلاً: “المعلّم صاحب المحلّ ينتظرك عند الساعة 4”. في الموعد المحدّد توجّهت إلى محل المجوهرات في مار إلياس، فاستقبلني رجل بيروتيّ من الطريق الجديدة يدعى “حامد”. وبعدما استفسر منّي عن كلّ التفاصيل، قال: “سأتّصل بك اليوم مساءً، وأعطيك جواباً نهائياً”.
بالفعل، لم يتأخّر اتصاله كثيراً، فما هي إلا ساعات حتّى رنّ هاتفي، وفي المقلب الآخر كان حامد: “غداً الساعة الواحدة سيكون صاحب المحلّ بانتظارك”. فسألته: “ألست أنت صاحب المحل”، فقال لي: “لا أنا المدير العام”. توجّهت مجدّداً في اليوم التالي إلى محلّ المجوهرات في شارع مار إلياس، وهو يقع في مكان أكثرية المحلات فيه تبيع المجوهرات. دخلت إلى المحلّ، فاستقبلني حامد مجدّداً. قال لي: “تفضّل إلى فوق”. صعدنا درجاً صغيراً يصل إلى علّيّة المحل (تتخيتة)، فرأيت رجلاً مربوع القامة يضع قبعة على رأسه ونظّارة، ويجلس متّكئاً واضعاً يده على كرسيّ ثان. فألقيت التحية، فوقف وردّ التحيّة بمثلها، وقال لي حامد: “أُعرّفك على السيّد سامي عيسى صاحب المحلّ”.
التقيت بسامي عيسى عدّة مرات بسبب قصّة الذهب، الذي تريد صديقتي المحامية أن تبيعه. مرّات داخل محلّه بمار إلياس، ومرّة في محلّه الواقع في منطقة برج حمود، وعدّة مرّات في ساحة النجمة بوسط بيروت في أحد المقاهي. واللافت أنّه في كثير من هذه اللقاءات، لم يكن سامي عيسى لوحده، بل كان دائماً برفقة فتاة أو فتاتين على قدر كبير من الجمال ومن “الظنطرة”، كما يُقال بالعامية. في إحدى الجلسات، سألته: “أليس بيع هذا الذهب أمراً مخالفاً للقانون؟”، فقال لي: “كلّ الذهب يُباع بطريقة مخالفة للقانون”. فسألته: “هل من تشديد على الأفراد ببيع الذهب وشرائه بهذه الطريقة”. فقال لي: “صحيح، ولكن كما يوجد أفراد وأشخاص فقراء، توجد دول فقيرة مستعدّة للدخول في عمليّات بيع كهذه”.
صديقتي المحامية لم تستطع إكمال صفقتها. وبوصول الأمور إلى خواتيم غير مفيدة، انقطعت علاقتي بسامي عيسى. ثمّ بعد إعلان القرار الاتّهامي للمحكمة الدولية الخاصة بلبنان، والمكلّفة النظر بقضية اغتيال الرئيس رفيق الحريري، ظهر اسم مصطفى بدر الدين بصفته متّهماً رئيسيّاً بالجريمة. وبالمصادفة، التقيت صديقي، الذي كان يعمل بمحلّ المجوهرات، فسألته عن أحواله، فقال لي: “لقد تركت العمل”، فقلت له مندهشاً: “وما السبب؟”. فقال لي: “ألم تسمع أنّ سامي عيسى هو نفسه مصطفى بدر الدين؟ لقد أُقفلت المحلات، وصُرِفنا منذ مدّة، فلا حول ولا قوّة إلا بالله”.
بعد كلّ هذا، تابعت أخبار مصطفى بدر الدين أمين، بحكم عملي الصحافي ومتابعتي للثورة السورية وأحداثها، وتصاعد اسم بدر الدين فيها، وتحديداً في معركة القصير عام 2013، التي دامت لأسبوعين وثلاثة أيام. وكما تواترت الأخبار والمعلومات، كان بدر الدين هو القائد العسكري لهذه المعركة، ثمّ جاء اغتياله في 13 أيار عام 2016، ثمّ أُخرِج اسمه من محكمة الرئيس الحريري بسبب الوفاة حتّى عادت ذكراه إلى مخيّلتي وأنا أعبر منذ أيام طريق مطار الرئيس رفيق الحريري الدولي، حيث رفع الحزب صوراً لمصطفى بدر الدين أمين على طول الطريق يميناً ويساراً، وذيّل الصور بعبارة: “لم تُهزم له راية”.
تأمّلت كثيراً العبارة الموضوعة في الشكل وفي المضمون.
من حيث المضمون: إنّ المعارك التي خاضها مصطفى بدر الدين، وأقلّه تلك التي نعرفها، هي:
– تفجيرات الكويت عام 1983.
– اغتيال الرئيس رفيق الحريري عام 2005.
– اقتحام بيروت في 7 أيار 2008.
– معركة القصير عام 2013.
– اقتحام مدينة يبرود والقرى المحيطة بها عام 2014.
من حيث الشكل: مفارقة ليست بالغريبة، وإن كانت مؤلمة ومزعجة، أنّه على الطريق المسمّاة بطريق مطار رفيق الحريري الدولي تنتصب صور قاتله، وكأنّي بمن وضعها يقول إنّ القاتل هو الضحية، وإنّ الضحية هو صاحب الجرم.
قد يظهر، من حيث الشكل، أنّ كلّ المعارك التي خاضها مصطفى بدر الدين انتهت إلى انتصارات، إن أسقطنا أنّ الدخول إلى القصير جاء بعد تدميرها تدميراً كاملاً وتهجير أهلها، وأنّ خروج المقاتلين السوريّين منها ما كان ليحصل لولا وساطات، منها ما جاء من بعلبك، ومنها ما جاء من قصر المختارة وزعيمه وليد جنبلاط.
وإن أسقطنا أنّ اقتحام بيروت في 2008 كان يوماً مقيتاً، وليس مجيداً، بشهادة رئيس الحكومة الأسبق سليم الحص.
وإن أسقطنا أنّ اقتحام يبرود وقراها دفع بخمسمائة ألف سوري إلى لبنان، وما زالوا فيه لأنّهم ممنوعون حتّى اللحظة من العودة إلى قراهم.
لكن ما لا يمكن أن نسقطه أنّ اغتيال الرئيس رفيق الحريري لم يكن انتصاراً ولا إنجازاً ولا إبداعاً، بل جريمة كاملة المواصفات، ليس بحقّ الرئيس الحريري وجمهوره وطائفته وعائلته، بل بحقّ لبنان وكلّ لبنان، وتحديداً جمهور وبيئة وعائلة مصطفى بدر الدين.
فهم الآن، مثلهم مثل كلّ اللبنانيين، يحصدون نتائج غياب الرفيق في الطرقات والأوتوسترادات، وفي بناء المعاهد والمدارس والمؤسسات، وأكثر من ذلك في سقوط قيمة ليرتنا وتحوّل رواتب الجميع إلى مجرّد سنتات.
جمهور بدر الدين وبيئته يعانون، كما كلّ اللبنانيين، انقطاعَ الكهرباء والبنزين، وارتفاع ثمن الرغيف، والخوف الخوف ممّا ينتظرنا في القريب القريب.
عذراً من الجميع: راية مصطفى بدر الدين ما انتصرت، بل هُزمت عندما هُزم لبنان. فإن كانت من راية قد انتصرت، فهي راية طهران التي حملها قاسم سليماني.
قُتِلَ مصطفى بدر الدين، أو كما أعرفه الأستاذ سامي بائع الذهب ورفيق الجميلات في وسط المدينة، والذي لا يخلع القبّعة، وكأنّه يُخفي تحتها ارتكابات كلّ السنين، كما أُخفيت أسرار مقتله.