إيلي القصيفي
لم يكن عابراً أن يستخدم البطريرك بشارة الراعي عبارة “القضيّة اللبنانية”، في معرض دعوته إلى مؤتمر دولي لتطبيق الدستور ووثيقة الوفاق الوطني. لقد أراد القول إنّ استعصاءات الحلول للأزمة السياسية والاقتصادية التي يتخبّط فيها لبنان ليست نتيجة ثغرات دستورية، بل لأنّ “هناك من يَعمِدُ إلى دفعِ لبنان نحو مزيدٍ من الانهيار لغاية مشبوهة” (9 أيّار).
دفعُ لبنان، دولةً ومجتمعاً، نحو مزيد من الانهيار والتقهقر، يجعل العمل السياسي الوطني مقتصراً على عنوان وحيد: مواجهة القوى الدافعة نحو الانهيار ومنعها من مواصلة استراتيجيّتها الهدّامة. ولعلّ جوهر “القضيّة اللبنانية” هو في هذه النقطة تحديداً، أي صدّ كل محاولات تدمير الدولة والمجتمع. ولذلك قال البطريرك في عظته تلك إنّ “دورنا أن نواصلَ النضالَ من أجلِ استعادةِ القرار الحرّ والسيادةِ والاستقلال وسلامة كلّ الأراضي اللبنانية”.
أهمّ مظهر من مظاهر استقلال أي دولة هو أن يكون دستورها ناظماً للعملية السياسيّة فيها. وكلّ الاحتلالات، منذ العثمانيين، علّقت دساتير دولنا في المنطقة، بشكل أو بآخر
هكذا أضاء البطريرك على الهَدف الهَدف: استعادة القرار الحرّ والسيادة والاستقلال وسلامة الأراضي اللبنانية. وللمفارقة كانت هذه الأسس التي دفع صوبها بطريرك الاستقلال الثاني مار نصر الله بطرس صفير. وبالتالي فإنّ استعادة الدولة عبر “تحرير الشرعية”، هو المدخل لا لوقف الانهيار وحسب، بل لتوفير إمكانات التعافي السياسي والاقتصادي.
البطريركية المارونية ترى أنّه من دون استعادة الدولة من “السلطة”، التي حوّلتها “عدوّة لشعبها”، بحسب تعبيره في 13 آذار، لا يمكن الخروج من المأزق السياسي والاقتصادي الحالي، الذي تحوّل مأزقاً وطنيّاً مهدِّداً لوجود لبنان دولةً ومجتمعاً.
في السياق عينه، تعني استعادة الدولة أوّلاً استعادة قرارها الحرّ، أي ألّا تكون قراراتها خاضعة لمصالح فئوية على حساب المصالح العامّة، على غرار ما يحصل الآن من قبل السلطة الحالية. والأخطر أنّ هذه المصالح الفئوية لا تحرّكها الحسابات الخاصّة للائتلاف الحاكم المتمثّل بحزب الله والتيار الوطني الحر وحسب، بل إنّ الدافع الأكبر إليها وغايتها النهائية يصبّان في وعاء الاستراتيجية الإيرانية في المنطقة، باعتبار أنّ نفوذ الحزب في لبنان هو نفوذ طهران فيه.
وعلى قدر ما يكون الانهيار الحاصل نتيجةً لرهن قرار الدولة بمصالح فئوية متّكئة على مصالح استراتيجية لدولة إقليمية، فهو يمثّل أيضاً انكشافاً واضحاً لكيف تستحوذ طهران على قرار الدولة اللبنانية السياسي. لذا تبقى الأولوية الوطنية اللبنانية الآن رفعَ هذا الاحتلال عن كاهل الدولة والمجتمع، باعتباره الطريق الوحيد نحو الخروج من النفق المظلم والطويل الذي أُدخِلا فيه.
هذا يجعل المعركة السياسية والوطنية في لبنان بين اتجاهين: الأوّل اتجاه السلطة، اعتراضاً على رهن قرار الدولة بالمصالح الحزبية والأولويات الإيرانية. والثاني اتجاه المعارضة الوطنية، بهدى من البطريركية المارونية، لتحرير الشرعية اللبنانية من أثقال هذه المصالح الفئوية ومن عبء الاستحواذ الإيراني على قرارهما (السلطة والوصاية الإيرانية).
إذاً ليست الأزمة الحكومية أزمةً قائمة بذاتها بمقدار ما هي ارتدادٌ لاحتلال القرار السياسي للدولة. إذ يسعى هذا الاحتلال بالدرجة الأولى إلى تركيب سلطة سياسية، وفي مختلف هيكليّات الدولة، تكون مواليةً له، فيستطيع الائتلاف الحاكم أن يأسر الاستحقاقات الدستورية جميعاً، ولا يفرج عنها إلّا عندما يضمن أنّ نتائجها ستكون لمصلحته.
وهذا دأب الحزب والتيار الوطني الحر منذ سنوات. إذ بات تعطيل الاستحقاقات الدستورية، ورهنها بمواقيت إقليمية وحسابات داخلية حزبية، ركنين أساسيّين في ممارستهما السياسية. وهذا هو حال الحكومة المخطوفة بالقرار الإيراني، بانتظار مفاوضات فيينا وبغداد ودمشق. وعوض أن تكون سياساته الحزب والتيار وفق موجبات الدستور، كما يُفترض أن تكون سياسات كلّ الأحزاب والقوى اللبنانية، فهي تقوم أساساً على تعطيل الدستور.
جوهر القضية اللبنانية الآن إعادةَ الاعتبار للدستور ووثيقة الوفاق الوطني باعتبارهما مرجعيّتين ضامنتين لسيادة الدولة ووحدة المجتمع… هذه هي الطريق الوحيدة لرفع احتلال إيران للقرار السياسي للدولة اللبنانية بواسطة الحزب والعهد اللذين يقوّضان الدستور
وليس ذلك كلّه سوى المظهر الرئيس لاحتلال القرار السياسي للدولة من قبل الراعي الإقليمي للحزب والعهد، طهران، لأنّ من مواصفات الاحتلال تعليق أو تعطيل الدستور في البلد المُحتلّ. ولذلك أهمّ مظهر من مظاهر استقلال أي دولة هو أن يكون دستورها ناظماً للعملية السياسيّة فيها. وكلّ الاحتلالات، منذ العثمانيين، علّقت دساتير دولنا في المنطقة، بشكل أو بآخر.
وليس أدلّ على ذلك، في السياق اللبناني، من كون الدستور اللبناني لم يطبّق إلّا بعد الاستقلال في عام 1943، وقد كان قبل ذلك رهن المصالح الفرنسية، إذ كانت سلطات الانتداب تعلّق العمل به متى تشاء. والرئيس فؤاد شهاب ما كان يتحدّث عن “الكتاب” لأنّه ناظم للعملية السياسية وحسب، بل لأنّ “هذا الكتاب” هو المرجعية الوحيدة التي يمكن أن تضمن الوحدة الداخلية بعد أحداث عام 1958. أي أنّ الدستور، في الحيّز اللبناني، هو الضامن لوحدة الدولة والمجتمع، فيكون تقويضه تقويضاً لهما. وهذا ما حصل خلال الحرب بين 1975 و1990. ثمّ أعاد اتفاق الطائف، الذي أنهى تلك الحرب، الاعتبار للدستور بوظيفتيْه المترابطتيْن: إعادة الانتظام إلى المؤسسات الدستورية، وضمان وحدة المجتمع شرطاً من شروط الخروج من الحرب.
ثمّ ما لبثت الوصاية السورية على لبنان أن أخضعت الدستور لأولويّاتها، لضمان سلطة موالية كلّيّاً لها… وصولاً إلى خروج القوات السورية من لبنان في عام 2005، إثر اغتيال الرئيس رفيق الحريري. لكنّ هذا الخروج، الذي كان بمنزلة الاستقلال الثاني للبنان، سرعان ما أُجهِضت مفاعيله، وتحديداً لناحية إعادة الاعتبار للدستور بصفته المرجعية الرئيسة للدولة والمجتمع، من خلال منع انتخاب رئيس الجمهورية لضمان وصول ميشال عون، وتأجيل الانتخابات النيابية مرّتين، وحبس تشكيل الحكومات لسنوات، إذا ما جمعنا أشهر التعطيل عن التشكيل، لضمان حصول الحزب على أثلاث معطّلة وأنصاف متحّكمة وصولاً إلى حكومات اللوان الواحد مع نجيب ميقاتي (بالقمصان السود) وحسّان دياب (بالتكنوقراط المغشوش). مسارات تعطيل طويلة لم تكن الغاية منها سوى إبقاء لبنان أسير المعادلة الإقليمية، التي فرضها التوسّع الإيراني في المنطقة بعد سقوط نظام صدّام حسين.
كلّ ذلك يجعل جوهر القضية اللبنانية الآن إعادةَ الاعتبار للدستور ووثيقة الوفاق الوطني باعتبارهما مرجعيّتين ضامنتين لسيادة الدولة ووحدة المجتمع… هذه هي الطريق الوحيدة لرفع احتلال إيران للقرار السياسي للدولة اللبنانية بواسطة الحزب والعهد اللذين يقوّضان الدستور. إنّها الطريق الوحيدة نحو تحقيق الاستقلال الثالث المكمّل للاستقلال الثاني، الذي أدّى إلى خروج الجيش السوري من لبنان، لكنّه اصطدم بالاحتلال الممنهج للشرعية بالوسائل المختلفة… ذلك الاحتلال الذي بات رفعه الشرطَ الرئيسَ لاستعادة الدولة وضمان وحدة المجتمع ونهائيّة الكيان.
المسألة ليست حكومية ولا دستورية، المسألة استقلالية بالدرجة الأولى.
والحلّ بمعركة الاستقلال الثالث.