في فلسطين 48: أصحاب الأرض يستردّونها!

 بيروت حمود

لعل أبلغ فعل أقدم عليه فلسطينيو الـ 48 إلى اللحظة تجسّد في فهمهم قدرتهم الهائلة على «حرق الدولة»، وهذا المصطلح ليس بمعنى إضرام النيران في الحيّز العام بكل ما يحويه من «ممتلكات ومؤسسات عامة» ورموز كرّستها المؤسسة الصهيونية التي تحتل أرضهم فحسب، وإنما بمعنى حرق المشروع الذي تحاول إرساءه المؤسسة منذ سنوات، القائم على مفاهيم «التعايش والسلم الأهلي والاندماج والأسرلة»، وأيضاً بمعنى إثبات القدرة على فهم الصراع بوضوح مهما بلغت محاولات حرفه.

ما حدث خلال اليومين الماضيين في المواجهات التي اندلعت في أكثر من مدينة وقرية عربية من جليل فلسطين المحتل شمالاً إلى جنوبها، ملتحماً مع الصواريخ التي أطلقتها المقاومة من غزة، يحمل دلالات مهمة وأعمق من تلك التي تبعت أحداث الانتفاضة الثانية عام 2000. فماذا يعني أن يهرب المحتلون الصهاينة من اللد خوفاً على حياتهم جراء استشراس قلة من المناضلين من الأهالي في الدفاع عن مدينتهم ضد المستوطنين؟ وماذا تعني مشاهد إطلاق النار على شرطة العدو في رهط وشقيب السلام؟ ماذا يعني أن يتحول السلاح الذي يزهق أرواح فلسطيني الـ 48 يومياً بجرائم العنف إلى رؤوس الذين يسلّمونه لأيدي القتلة، وهذا ما نبّه إليه أمس المراسل العسكري للقناة الـ 13 ألون بن دافيد، حين تحدث عن أن الجيش رفع درجة الجهوزية في المعسكرات القريبة من المدن والبلدات الفلسطينية تحسباً من عمليات إطلاق نار ينفذها فلسطينيون في حوزتهم أسلحة!

الأهم من ذلك كله: ماذا يعني إعلان حالة الطوارئ الخاصة في اللد وغيرها من المدن أو البلدات المحتلة واستقدام فرق «حرس الحدود» من الضفة المحتلة بسبب إعلان الشرطة فقدانها السيطرة على الوضع، ثم اضطرار رئيس الوزراء، بنيامين نتنياهو، نفسه إلى الحضور شخصياً إلى اللد وعكا، فيما غزة تسطر بطولات جديدة وتذلّ جيشه؟ لعل هذا كله يعني أن أكبر أنظمة العالم وأشدها تماسكاً وقوة قد تتفكك في لحظة واحدة بسبب «برغي» صغير انحل من عقدته، وأن جبلاً هائلاً قد ينهار بسبب حصى صغيرة ترقد أسفله. كما يعني ما قاله الأمين العام لحزب الله، السيد حسن نصر الله، ذات يوم في بنت جبيل، «إن إسرائيل هذه أوهن من بيت العنكبوت»، القول الذي يعيد تذكّره الفلسطينيون الآن.

أما الأخطر، فهو كيف انقلب «تطويع وترويض» الداخل المحتل إلى أولوية للمؤسسة الأمنية والعسكرية والسياسيّة في إسرائيل، كما تحوّل ترميم عمقها المهشم إلى مسألة لا تقلّ إلحاحاً من البحث في محاولات ترميم صورتها التي مزقتها صواريخ غزة المحاصرة. فنتنياهو الذي وصل فجر أمس إلى اللد، وبعد ساعات من ذلك إلى عكا، كان واضحاً في تصريحه: «الوضع غير مقبول بتاتاً». ولعل ما كان أوضح ملامحه الخائبة المهزومة اليائسة التي تذكّر بملامح وجه سلفه، إيهود أولمرت، أيام حرب تموز 2006!

إذاً، استطاع فلسطينيو الـ 48 تنظيم قواعدهم، وهم الذين أعلنوا بوضوح قبل شهرين أنهم خارج المعركة الخائبة في أروقة الكنيست، عندما قررت الغالبية العظمى منهم مقاطعة الانتخابات والمعركة التي لم تجلب لهم سوى مزيد من الذل لسنوات! ولئن كانوا يخوضون الآن حرباً ضد محتلّيهم، فقد يضطرّون مع تطور الأوضاع إلى خوض حرب ضد من زعّموا أنفسهم قادة عليهم، أولئك المهزومين الذين يحاولون اليوم رمي مكعبات الثلج على حريق هائل، كمنصور عباس، وأولئك المنشغلين في قضايا مثل بضعة براميل زبالة وأعمدة كهرباء مكسّرة والدعوة إلى الحفاظ على البيئة من الدواليب المحترقة!

لعل هؤلاء غاب عنهم أن جيلاً كاملاً ينشأ بعيداً من دعواتهم، وفي قلب أزقّة الفقر المهمّشة والغيتوات المكتظّة وبين رصاص منظمات الجريمة، ويكبر على أصوات قنابل الصوت والهلع ومشاهد القتل وأخذ الثأر وجمع الخوات، وفي قلب منظومة إسرائيلية تقوم على طحنهم وإذلالهم يومياً. لعل هؤلاء غاب عنهم أن منصات مثل «تيك توك» قادرة على التحشيد وتنظيم الناس أكثر منهم! قد يفيد تذكير هؤلاء بأنه قبل أيام من هذا كله، كانت إسرائيل تخطط للبدء في أكبر مناورة عسكرية في تاريخها، «عربات النار»، تلك التي كان من المفترض أن تستمر شهراً للتدرب على كيفية التعامل مع الحرب على جبهات متعددة، وأنه قبل أن تبدأ المناورة وجدت إسرائيل نفسها أمام الخلاصة التي قالها يوماً الشهيد غسان كنفاني: «الحرب هي أن تتوقع كل شيء وألا تجعل عدوك يتوقع شيئاً». لقد حدث ذلك، ولم تتصور تلك القيادة أن قدرتها عاجزة إلى هذا الحد إزاء التعامل مع جبهة ونصف جبهة: غزة تمطرها بالصواريخ في العمق، والفلسطينيون الأحرار يمزقون بأظفارهم وجهها القاسي.

• ما حدث يحمل دلالات أعمق من تلك التي تبعت أحداث الانتفاضة الثانية

كل ذلك دفع الحكومة إلى الاستعانة بـ«اليد اليمنى للدولة»: عصابات «تدفيع الثمن»، و«ليهافا» و«شبيبة التلال» و«لافاميليا» وغيرها من العصابات الصهيونية والتنظيمات التي تتدرب منذ سنوات على قتل وترويع وترهيب الفلسطينيين في الضفة والقدس والأرض المحتلة عام 1948، وترتكب بحقهم أنواعاً مختلفة من الاعتداءات. ففي ساعات المساء أمس، هاجمت هذه التنظيمات محالّ الفلسطينيين في يافا واللد والرملة وعكا وحيفا مستخدمة السكاكين والأسلحة النارية، ومستعينة بـ«الممتلكات العامة» لتخريب ممتلكات الفلسطينيين، وهي مشاهد عنيفة لم يسبق أن حدثت بهذا الزخم. أما الفلسطينيون، فتصدّوا ببسالة بصدورهم العارية وأجبروا الشرطة والمستوطنين على التراجع.

لعل أجمل ما في المشهد ليس فقط أن المقاومة تسطّر وتثبت معادلات ردعيّة جديدة إزاء العدوّ، مفادها بأن من تمتدّ يده على القدس سيقطعها سيف غزة، ولكن الأساطير الصهيونية تداس اليوم تحت نعال الشرفاء والأحرار، فمن هو «حارس الأسوار» في هذه الأسطورة التي يشهد عليها التاريخ، ومن صاحب يوم توحيد كل فلسطين وليس «توحيد القدس؟ وهل هذه «قدس الذهب» أم «زهرة المدائن»؟ إنهم الفلسطينيون أصحاب الأرض!

Exit mobile version