حسني محلي
مواقف إردوغان الإيجابية في العلاقة مع “إسرائيل” لم تمنعه من اتخاذ موقف عنيف ضدها عندما أعلنت القدس عاصمة تاريخية ودينية وأبدية لها في أيار/مايو 2018.
شهدت عدّة مدن تركية، وفي مقدّمتها إسطنبول وأنقرة، تظاهرات صاخبة قرب السفارة والقنصلية الإسرائيلية، عبّر خلالها المتظاهرون، وهم من أتباع وأنصار حزب “العدالة والتنمية” الحاكم وتنظيمات إسلاميّة مختلفة، عن تضامنهم مع صمود الشعب الفلسطيني في القدس والمسجد الأقصى.
لم تتّخذ سلطات الأمن أيّ إجراء ضد المتظاهرين الَّذين خرجوا إلى الشوارع، رغم الإغلاق التام المطبق في عموم البلاد، بسبب انتشار وباء كورونا بشكل خطير. وشهدت بعض الجامعات بدورها تظاهرت طلابية نظَّمتها جمعيات وروابط يسارية، ناشد خلالها المتحدثون الرئيسَ إردوغان “باتخاذ مواقف عملية، بعيداً من التنديد والاستنكار والتهديد والوعيد”.
وذكَّر المتحدثون في هذه التظاهرات “بذهاب العشرات من قيادات الحركات الشبابية الثورية في نهاية الستينيات إلى المخيّمات الفلسطينية في الأردن وسوريا ولبنان للتدريب على السلاح والقتال إلى جانب الاحتلال الصهيوني لفلسطين، في الوقت الذي كان الإسلاميون يتحالفون مع أميركا”، وقالوا: “لم يشهد التاريخ التركي ذهاب أي تركيّ ذي ميول أو انتماءات إسلامية إلى فلسطين للقتال ضد إسرائيل، كما لم يقم أيّ منهم بأيّ عمل ضد المصالح الإسرائيلية في تركيا، كما فعل ماهر جايان ورفاقه عندما اختطفوا القنصل الإسرائيليّ في إسطنبول في أيار/مايو 1971 وقتلوه”.
التذكير بتناقضات الموقف التركي كان من سمات الفعاليات الإعلامية والسياسية، إذ لفت الكثيرون الانتباه إلى مساعي إردوغان للمصالحة مع “إسرائيل”، في ظل استمرار العلاقات الاقتصادية والتجارية بين البلدين، والتي حققت، وما تزال، أرقاماً قياسية.
أجرى الرئيس إردوغان اتصالاً هاتفياً بالعاهل الأردني عبد الله وأمير قطر تميم، وبحث معهما آخر التطورات، في الوقت الذي كان الوزير جاويش أوغلو، الموجود في الرياض، على اتصال دائم مع لافروف وظريف ووزراء خارجية مصر والمغرب والأردن وباكستان.
بدوره، أصدر البرلمان التركي، بمشاركة كل أحزابه، بياناً مشتركاً، وهو ما يحدث نادراً، استنكر فيه العدوان الإسرائيلي على القدس والمسجد الأقصى. زعيم حزب الشعب الجمهوري، كمال كليجدار أوغلو، ناشد الرئيس إردوغان “اتخاذ موقف عملي وفعّال ضد إسرائيل وأعمالها الهمجية ضد الشعب الفلسطيني بدلاً من بيانات الاستنكار”.
نائب رئيس الحزب “الجيد” آيتون جيراي “استبعد أن يقدم إردوغان على مثل هذا التحرك”، وقال: “إردوغان الذي زار إسرائيل، والتقى المجرم شارون في القدس، لم يفعل شيئاً سوى الكلام عندما أعلن الرئيس ترامب القدس عاصمة دينية وتاريخية وأبدية ليهود العالم”. كما تعرض إردوغان لانتقادات عنيفة من قيادات الأحزاب الأخرى التي أشارت إلى تناقضاته المتكررة في العلاقة مع تل أبيب ومنظمات اللوبي اليهودي في أميركا.
بعد زياراته المتتالية إلى أميركا، حتى قبل أن يصبح رئيساً للوزراء في آذار/مارس 2003، إذ منحته منظمات اللوبي اليهودي في العام 2004 “وسام الشجاعة السياسية”، زار إردوغان “إسرائيل” في الأول من أيار/مايو 2005، والتقى السفاح شارون الّذي رحب به “في العاصمة الأبدية لدولة إسرائيل اليهودية”، كما زار متحف ما يُسمى بـ”المحرقة اليهودية”.
وشهدت علاقات أنقرة بعد هذه الزيارة تطورات مثيرة وسريعة، إذ حقّق التبادل التجاري بين البلدين، وما زال، أرقاماً قياسية، كما هو الحال بالنسبة إلى السياح الإسرائيليين الذين زاروا تركيا خلال تلك السنوات. وقد شجعت هذه الأجواء إردوغان على أداء دور الوساطة بين دمشق وتل أبيب في العام 2008، على الرغم من تحذيرات الرئيس الأسد من الثقة بالإسرائيليين، وهو ما تحقق عندما شن أولمرت هجومه الوحشي على غزة نهاية العام 2008، بعد أسبوع من موافقته على المصالحة مع دمشق.
ردُّ إردوغان على أولمرت جاء في اجتماعات دافوس، عندما قال لشمعون بيريز: “أنتم قتلة ومجرمون”، وهو ما أدى إلى توتر متزايد في العلاقة بين البلدين، انتهى بهجوم جيش الاحتلال الإسرائيلي في 31 أيار/مايو 2010 على سفينة الإغاثة الإنسانية “مرمرة”، عندما كانت في طريقها إلى غزة، فقتل 9 من ركابها الأتراك. وقد تناقضت مواقف إردوغان في هذا الموضوع، إذ أيّد رحلة السفينة، ثم عاد وندّد بها، لانطلاقها من دون استئذانه، لينتهي الموضوع بإغلاق الملف نهائياً في نهاية العام 2016، عندما تبرعت تل أبيب بمبلغ 20 مليون دولار لضحايا السفينة، فسقطت كل الدعاوى المرفوعة ضد قيادات “الجيش” الإسرائيلي في المحاكم التركية.
لم يكن ذلك الموقف التركي الوحيد للتودّد إلى تل أبيب، إذ لم تستخدم أنقرة في العام 2016 حقّ النقض (الفيتو) ضد انضمام “إسرائيل” إلى منظمة التنمية الاقتصادية “OECD”، وهي لم تفعل ذلك عندما سمح الحلف الأطلسي بفتح ممثلية عسكرية لـ”إسرائيل” في مقره الرئيسي في بروكسل.
لم تمنع كلّ هذه المواقف الإيجابية في العلاقة مع تل أبيب الرئيسَ إردوغان من اتخاذ موقف عنيف في هجومه على “إسرائيل”، عندما أعلنت القدس عاصمة تاريخية ودينية وأبدية لليهود في أيار/مايو 2018، وذلك بعد أشهر من اعتراف الرئيس ترامب في 6 كانون الأول/ديسمبر 2017 بالقدس عاصمة لها. ودعا إردوغان آنذاك، بصفته رئيس منظمة التعاون الإسلامي، زعماء الدول الإسلامية إلى قمتين متتاليتين في إسطنبول، لم يحضرها إلا عدد قليل من الزعماء، كانوا كالعادة يخافون أميركا وصنيعتها “إسرائيل”.
وجاءت اتفاقية “أبراهام” التي تبناها ترامب، وتورطت فيها الإمارات والبحرين والسودان والمغرب، وقبلها سلطنة عمان التي زارها نتنياهو كأول دولة عربية في 26 تشرين الأول/أكتوبر 2018، لتضع إردوغان أمام تحديات جديدة، إذ هدَّد وتوعد هذه الدول وأنظمتها وكل من يتعاون مع “إسرائيل”.
وانتهى المطاف بإردوغان بأن يعترف في 25 كانون الأول/ديسمبر الماضي “باستمرار العلاقات بين أجهزة المخابرات التركية – والإسرائيلية، والتي لم تنقطع على الرغم من الخلاف السياسي مع قمة الهرم في تل أبيب”، وأضاف: “إننا نتمنى علاقات إيجابية مع إسرائيل”. واستغربت المعارضة آنذاك حديث إردوغان هذا عن التعاون بين أجهزة المخابرات، في الوقت الذي يهاجم تل أبيب يومياً.
كما تحدّثت المعلومات آنذاك عن وساطة أذربيجانية وقطرية لتطبيع العلاقة بين تل أبيب وأنقرة، التي أعلنت العام الماضي عن مرشح لتعيينه سفيراً في تل أبيب، وهو مختص في التاريخ اليهودي، كان قد درس في “إسرائيل”، في الوقت الذي يتم نقل بترول أذربيجان وكردستان العراق إلى “إسرائيل من الموانئ التركية الواقعة على الأبيض المتوسط”.
وتذكّر المعارضة بأقوال الزعيم الإسلامي الراحل نجم الدين أربكان الذي كان يتهم إردوغان وحزب “العدالة والتنمية” “بخدمة أميركا وإسرائيل والصهيونية العالمية”، فيما تحدث أركان باش، زعيم حزب “العمال”، عن “الدور الرئيسي الذي أدته أنقرة في الربيع العربي، وكان الهدف منه تدمير سوريا والتخلص من حزب الله، وهما معاً في خط المواجهة الرئيسي ضد إسرائيل ومن يقف خلفها إقليمياً ودولياً، بما في ذلك أصحاب الخوذ البيضاء”، التي قال عنها باش “إنها كانت جزءاً من المؤامرة، إذ قام الجيش الإسرائيلي بنقل المئات منهم من الجنوب السوري إلى إسرائيل، ثم الأردن، ثم بريطانيا، التي موّلتهم واستخدمتهم. وانتهت قصتهم بمقتل مؤسّسهم في إسطنبول بشكلٍ غامض في 11 تشرين الثاني/نوفمبر 2019”.
كما تمَّ نقل جرحى المئات من مسلّحي الفصائل المختلفة من جبهات القتال في جنوب سوريا إلى المستشفيات الإسرائيلية، لمعالجتهم وإرسالهم من جديد للقتال ضد الدولة السورية، ولم يقاتل أحد من عصاباتها التي رفعت شعارات إسلامية ضد “إسرائيل” التي تحميها قاعدة كوراجيك شرق تركيا من أي هجوم صاروخي إيراني من خلال نظام إنذار مبكر!