بفارق أيامٍ قليلة تدخل مؤسّستان قضائيّتان، هما المجلس الدستوري ومجلس القضاء الأعلى مبدئيّاً، مدار التعطيل الكامل. يبدو المشهد عاديّاً وغير مُستفزّ للسلطة السياسية المعنيّة بسدّ الشغور في هاتين المؤسّستين، والتي تتفرّج على ما هو أخطر بكثير: انهيار الدولة بشعبها ومؤسّساتها ونظامها.
في المقاربة السياسية لهذه المعضلة، مجلس القضاء الأعلى هو اليوم خارج السيطرة السياسية لرئيس الجمهورية، وخصوصاً رئيسه القاضي سهيل عبود، الذي يحظى بشبه إجماعٍ على قدراته ونظافة كفّه، والدليل ما حصل في التشكيلات القضائية. أمّا المجلس الدستوري فرئيسه طنّوس مشلب، المعروف بكفايته ونزاهته أيضاً، ومقرّبٌ من رئيس الجمهورية، لكنّ أعضاء المجلس الدستوري يشكّلون مرآة القوى السياسية.
ينتظر مجلس القضاء الأعلى “ثلاثيّة” من التواقيع تقيه شرّ الشلل في 28 من أيّار الحالي، مع انتهاء ولاية سبعة من أعضائه.
وتستمرّ ولاية الأعضاء الحكميّين الثلاثة المعيّنين بمرسوم متّخذ في مجلس الوزراء، ويبقون في مواقعهم طوال مدّة تولّيهم مهمّاتهم، وهم: رئيس مجلس القضاء الأعلى، مدّعي عامّ التمييز غسان عويدات ورئيس التفتيش القضائي بركان سعد.
من أصل الأعضاء السبعة يُنتخَب عضوان من رؤساء غرف التمييز. ووفق المعلومات وجّه القاضي عبود الدعوة، وستلتئم الهيئة الناخبة يوم الثلاثاء المقبل لانتخاب عضوين بالاقتراع السرّي، لمدّة ثلاث سنوات. أمّا الأعضاء الخمسة فيُعيّنون، وفق نصّ المادّة الـ2 من قانون القضاء العدلي، بمرسوم، بناءً على اقتراح وزير العدل، لمدة ثلاث سنوات غير قابلة للتجديد.
يقول الوزير السابق والخبير الدستوري زياد بارود لـ”أساس”: “لا يفترض إطلاقاً أن يدخل مجلس القضاء الأعلى في مرحلة شغور. فالأعضاء المنتهية ولايتهم يُعيّنون بمرسومٍ عاديّ وليس بمرسومٍ متّخذ في مجلس الوزراء يتطلّب انعقاد الحكومة. والأعضاء الخمسة يُعيَّنون بمرسوم بناءً على اقتراح وزيرة العدل، وهي ستقوم، حسبما أعلم، بما عليها، ثمّ يوقّع المرسوم رئيس حكومة تصريف الأعمال، ثمّ رئيس الجمهورية”.
يضيف بارود: “هل يتذرّع البعض بأنّ حكومة تصريف الأعمال لا تستطيع توقيع هذا النوع من المراسيم؟ جوابي القانوني أنّ ذلك يجب ألّا يحصل لسببين: الأوّل أنّ حكومة تصريف الأعمال معنيّة ببتّ المسائل الملحّة وكل ما يرتبط بالمهل بغية انتظام عمل المؤسسات وفق اجتهاد مجلس شورى الدولة منذ عام 1969، وبما يتوافق مع رأي هيئة التشريع والاستشارت في وزارة العدل… وإذا لم يحصل هذا التوقيع، سيؤدي ذلك إلى ضرب انتظام المرفق العام القضائي، ودور مجلس القضاء الأعلى محوريّ في هذا السياق”.
“أمّا السبب الثاني”، يتابع بارود: “فقد درجت العادة، ولو بصورة غير دستورية، على ما بات يُعرف بالموافقات الاستثنائية. في رأيي أنّ السبب الأوّل كافٍ لتوقيع المرسوم، لكن يمكن أيضاً إدراجه ضمن الموافقات الاستثنائية. فالعبرة تبقى بتوقيع المعنيّين نظراً إلى أهمّية الموضوع”.
بوجود الكباش السياسي بين رئيس الجمهورية ورئيس مجلس القضاء الأعلى، هل يؤدّي رفض التوقيع إلى أزمة تضاف إلى أزمة التشكيلات القضائية في ظلّ وجود صعوبة في التوافق على أسماء يُفترض أن تنال رضى القوى السياسية؟
يجيب بارود: “بمعزل عن أيّ حسابات،نحن أمام مسؤولية وطنية تتعلّق بانتظام المرفق العام القضائي، إلّا إذا كان المطلوب ضرب كلّ المؤسّسات. والسؤال الجوهري: هل من نيّة لتعطيل هذا المرفق القضائي؟”.
مشلب: عدم الانتخاب يعني تعطيل المجلس
على خطّ المجلس الدستوري، لا تبدو الصورة أكثر وضوحاً. فقد ترافق الشغور في المجلس الدستوري بوفاة العضو الثالث في المجلس القاضي أنطوان بريدي، مع تقديم نواب كتلة “الجمهورية القوية” طعناً بقانون سلفة الكهرباء وصدور قرار عن المجلس يعلّق العمل بالقانون.
يقول رئيس المجلس الدستوري القاضي طنوس مشلب لـ”أساس”: “بدايةً أُعدّ التقرير المختصّ بالطعن بقانون سلفة الكهرباء، وحتى يوم أمس كنّا في طور تبليغ كلّ الأعضاء به والنقاش فيه. وسنتّخذ القرار مطلع الأسبوع المقبل بإعلان الشغور وإبلاغ مجلس النواب به. وبعد تبليغه يُنشر القرار في الجريدة الرسمية. واعتباراً من تاريخ نشره تُعطى مهلة عشرة أيام لمن يريد التقدّم بطلب الترشّح. ومن تاريخ تبلّغ مجلس النواب، تكون لديه مهلة 15 يوماً لانتخاب البديل”.
وماذا عن العراقيل التي حالت دون أن تعيّن الحكومة العضوين؟ وهل ينشب خلاف سياسي في مجلس النواب على انتخاب العضو الأرثوذكسي الذي سيحلّ مكان القاضي بريدي؟
يردّ مشلب: “بالنسبة إلى الحكومة كان يمكن أن تقوم بواجبها، لكن من الواضح أنّه لم يكن لديها قرار بالتعيين. أمّا في مجلس النواب فلا أعتقد أنّ عناك مشكلة، وستكون “مُسَهّلة”. فليس من عقبات تعترض ذلك. وإذا لم يحصل الانتخاب يكون لدى البعض قرارٌ بتعطيل المجلس الدستوري”.
وحول مدى وجود توافق سياسي على الاسم، يجزم مشلب أنّه “حتّى الآن لم نفتح باب الترشّح، ولا نعلم مَنْ هم المرشّحون. ولا بدّ أن ننتظر ما بعد النشر في الجريدة الرسمية. ويمكن أن يترشّح مَنْ يتوافق عليه الجميع. ويمكن ألّا يتقدّم أحد بترشُّحه فنضطر إلى تحديد مهل جديدة”.
“فوضى” الشغور
أمّا إذا طال الشغور المجلس الدستوريّ ومجلس القضاء الأعلى معاً، وهو أمر غير مستبعد في ظلّ الفوضى القائمة، يقول المحامي زياد بارود: “خيارٌ كهذا يعني وضع المسمار الأخير في نعش ما تبقّى من مؤسّسات. وفي حال اكتشفنا أنّ أحدهم يحمل في جيبه قراراً بتعطيل كل المؤسّسات الدستورية والقضائية، فهذا أمرٌ خطير وغير بريء، خصوصاً بعد الانهيار، الذي طال أكثر من مرفق، وصولاً إلى حكومة لا تجتمع حتّى تحت بند وحيد وملحّ هو إقرار مشروع الموازنة”.
النصاب القانوني لالتئام المجلس الدستوري هو حضور ثمانية أعضاء من أصل عشرة، فيما يتّخذ قراراته بأكثرية سبعة أعضاء في كل ما يتعلّق بالطعون المقدّمة أمامه والمراجعات المتعلّقة بالرقابة على دستوريّة القوانين والنزاعات الدستوريّة.
وسبقت وفاة القاضي بريدي، المُنتخَب من مجلس النواب مع أربعة أعضاء آخرين، وفاة عضويْ المجلس الدستوري القاضييْن إلياس بوعيد وعبد الله الشامي، المعيّنيْن من ضمن حصّة الحكومة البالغة خمسة أعضاء، من بينهم رئيس المجلس القاضي طنوس مشلب.
مصير الطعن بسلفة الكهرباء
في السياسة يمكن قراءة المشهد من زاوية مغايرة كليّاً للمنحى القانوني. فهي مرتبطة بالضغط الذي مارسته القوات على خصمها التيار الوطني الحرّ، وإحراجه عبر تقديم الطعن “الكهربائي”، وذلك “منعاً للاستمرار في هدر المال العام وتبديد ودائع اللبنانيين بالاقتطاع من الاحتياط الإلزامي”. مع العلم أنّ قبول الطعن قد يقود إلى العتمة الشاملة لعدم توافر البديل عن سلفة خزينة الـ300 مليار ليرة لتوفير حاجات مؤسسة الكهرباء من الفيول لشهرين. وسيؤدي عدم صرفها، وفق التيار، إلى إطفاء معامل الكهرباء بعد نفاد المبلغ المتبقّي من سلفة عام 2020.
عمليّاً، فَرَز منطق “السلفة” لكهرباء لبنان القوى السياسية بين مؤيّد ومعارض، مع انغماس كامل في الحسابات السياسية لم يكن صعباً من خلاله رصد تموضع الجميع تقريباً، وعلى رأسهم القوات وحركة أمل وتيار المستقبل، ضدّ التيار الوطني الحرّ ووزارة الطاقة.
لذلك، وفق مطّلعين، يبدو أنّ انتخاب عضو المجلس الدستوري، بما يكفل توفير النصاب وبتّ الطعن إيجاباً، يصبّ في مصلحةً هذا “المحور”. لكنّهم يشيرون إلى “أنّ تعليق المجلس الدستوري العملَ بقانون السلفة لا يلغي احتمال ردّ الطعن بالشكل وبالأساس، لأنّ مهمّة المجلس الدستوري النظر في دستوريّة القوانين وليس في مدى ملاءمتها للأوضاع”.