«إذا لم أسرقه شخص آخر سيسرقه»

ابتهال الخطيب

لا حياد مع “الاحتلال”، لا وجود لرأي ورأي آخر، هناك حقائق ووقائع واتفاقيات دبرت بليل لترسل يهود أوروبا إلى الأراضي الفلسطينية، ليبدأ من سنة 1917 التهجير المنظم للفلسطينيين والتطهير العرقي لوجودهم.

 

واليهودية كديانة لا علاقة لها بجرائم الحرب التي تقع كل يوم ببجاحة وبشاعة وعلى مرأى ومسمع العالم بأسره على الأراضي الفلسطينية، فالعديد من يهود العالم يعارضون قيام دولة يهودية على الأراضي الفلسطينية أو على غيرها، بل أن البعض منهم صرح بتعارض فكرة “الأرض اليهودية” مع العقيدة بحد ذاتها، والتي تقول باستحالة وجود أرض يهودية لقوم خالفوا أوامر الرب ذات زمن، حيث أن هناك جاليات يهودية تؤمن بأن عدم وجود أرض يهودية هو ثمن تدفعه الطائفة الدينية ونوع من التطهير الروحاني لآثام مرتكبة سابقة.

ولكن بخلاف كل ذلك، وفي عالم اليوم الذي نناضل فيه من أجل تثبيت أقدام الدول المدنية المتخلخلة ركبتيها أصلاً تحت وطأة العادات والتقاليد والقراءات السياسية الدينية حتى في أعتى المجتمعات تطوراً وعلمانية، كيف يقبل العالم بل ويشجع ويرحب بحجة دينية لقيام دولة “مدنية” بجيش وحكومة وعاصمة وعلم؟ أي منطق هذا الذي يبيح لإسرائيل إقامة دولة باسم دين في زمن نحن نتصارع فيه مع فكرة الدول التي تتخذ صفات دينية؟ إسرائيل مقبولة وإيران شريرة بسبب نظام ملاليها؟ حقيقة، من الناحية السياسية التكنيكية، ما الفرق؟

يا لغرابة عدالة المنتصر ويا لمفارقات أحداثها. اليوم تحتكم السلطات الإسرائيلية لحكم محكمة في طرد سكان فلسطينيين من حيهم والذي يقيمون فيه لأكثر من ستين سنة بحجة ملكية أراضي الحي لجهات يهودية. هذا الموضوع برمته لا يحتمل الكثير من النقاش الموضوعي، فقبل أن نذهب لتفاصيل القضية ومعنى الحكم وحيثياته، علينا أن نناقش أي محكمة تلك التي ستبت في الموضوع أصلاً؟ إنها محكمة المنتصر، هي محكمة كيان أتى مستوطناً بالجيوش والتمويلات الخارجية والمعاهدات البائدة التي ظهرت كالعفن بين حربين عالميتين، هل هذه المحكمة، الإسرائيلية، ستكون منصفة تجاه الفلسطينيين، الذين هم، من هوياتهم، أعداء للمحكمة و”الدولة” التي نصَّبتها؟ عجبي والله على محكمة العدو تفصل بينه وبين عدوه، تنبأ بها النابغة العمري حين قال “فيك الخصام وأنت الخصم والحكم”.

في عصر السوشال ميديا والكاميرات المحمولة والتلفونات التي تنقل الحدث لحظة وقوعه، لا مجال للمداراة والتزييف، فها نحن نسمع أصوات المستوطنين الجدد وهم يجادلون الفلسطينيين الواقفين ببيبان بيوتهم العتيقة أن هذا حكم محكمة وأنه، كما دار في حوار بين فلسطينية وإسرائيلي والذي بادرها، “لو ذهبتُ أنا فلن تعودي أنت للمنزل، أنا لم أفعل (أتسبب في) ذلك”. وحين ردت عليه السيدة الفلسطينية أن “يا يعقوب أنت تسرق بيتي”، رد هو الرد المفجع “وإذا لم أسرقه شخص آخر سيسرقه”. نعم صدقت يا يعقوب، إذا لم تسرقه أنت، شخص آخر سيسرقه، فالقصة كلها بدأت بحرمنة، بسرقة، فما بالنا نستغرب تفاصيل نهب الحيوات والأراضي والكرامات التي تملأ هذه القصة الحزينة؟

على خلفية كل حدث في عالمنا العربي المسكين هناك صورة لبيت مهدم تقف أمامه سيدة فلسطينية بزيها الأصيل منكوبة محروقة القلب، في ظل كل نكبة عربية جديدة تلوح النكبة القديمة، لأطفال يجرجرهم الجنود بعنف فيما هم يتعثرون بحقائبهم المدرسية على ظهورهم، لنساء تواجه الأسلحة في محاولة لعبور الحدود، لشباب وشابات يجرجرهم الجنود على ظهورهم وبطونهم ويضغطون على رقابهم بأقدامهم ليخرسوا صوتاً يطالب بحرية التنقل على أرضهم أو بأداء الصلاة في أقصاهم. كل ما يحدث في عالمنا العربي يحدث على هذه الخلفية الداكنة التي تجاهلناها إلى أن أظلمت تماماً ومعاها دنيانا بأكملها، وكل ما سيحدث سيكون نتاج هذه اللعنة التي سامحناها وتسامحنا معها، فنسينا وتناسينا وتركنا النساء والأطفال والشباب والعجائز يموتون على شاشات تلفزيوناتنا وعلى خلفيات تلفوناتنا. الحل بسيط بالنسبة لنا، حين يشتد الألم نضغط زر الإغلاق، فتختفي القصة وتتحول جرائم الحرب والتطهير العرقي والإبادات الجماعية والقهر والذل والاستيطان والمنع من بيوت الله كلها إلى قصة، مجرد قصة تنتهي فور تسويد الشاشة بكبس أزرارها.

الحقيقة مشعة مهما اسودت الشاشات وكُبست الأزرار، التاريخ شاهد مهما كتم صوته أو حاول المنتصرون تغيير نبرته، وعلى أن هناك اليوم أجيال متعاقبة من “الإسرائيليين” الذين ولدوا في فلسطين ولا يعرفون غيرها وطناً ولا يمكن تهجيرهم تكراراً للمأساة البشعة، إلا أن الحل لا يمكن أن يبدأ من محاكم إسرائيلية منحازة أصلاً في دولة احتلال، ولا يمكن أن يُفرض على بشر، وإن خططت له وساندته قوى عالمية لا تقهر، لازالت مفاتيح بيوتهم، لسبعين سنة وتزيد، معلقة بحبال مهترئة من رقابهم. هذا وضع لن يستمر ولن يستقيم، ذلك أن الطبيعة تنفر من الخلل كما تنفر الحقيقة من الأكاذيب والسلام من العنف والقتل. فلسطين للفلسطينيين، ولو فرض الوضع الراهن تفاوضاً حزيناً، فلا يجب أن يكون تفاوض مذل معبئ بالدماء. يتفاوض الفلسطينيون على أراضيهم، على وطنهم، بالنقاشات أحياناً وبالمعاناة والقهر والموت أحايين كثيرة، أقل ما يجب أن يقف العالم حماية للمنكوبين واحتراماً لفقد لا يبدو قابلاً للتعويض.

المصدر: الحرة 

Exit mobile version