رقصة أخيرة .. على باب جهنم!
نبيل هيثم-جريدة الجمهورية
«المبادرة الفرنسية من ورائكم والإنفجار الكبير من أمامكم».
بهذا لخّص أحد الديبلوماسيين في جلسة خاصة، المشهد اللبناني العالق في دوامات التشكيل الحكومي المفرغة، والتي تجعل لبنان اليوم على سكة اللاعودة في وجهة الانهيار الشامل.
هكذا أتت زيارة جان ايف لودريان للبنان، لتمثل نقطة مفصلية، ولو في رمزيتها، للأزمة السياسية المستعصية. هي في الواقع زيارة نعي للمبادرة الفرنسية، التي باتت معها جهود الديبلوماسية الفرنسية، سواء في الاليزيه أو الكي دورسيه، منصّبة على حراك بالغ الخطورة، قد يبدو في ظاهره فرصة ايجابية تتمثل في الدعوة إلى عقد مؤتمر للقوى السياسية اللبنانية في باريس، فيما باطنه يشي بأنّ لبنان قد يكون على شفير تجرّع سم مؤتمر تأسيسي، في ظلّ حديث متكرّر في الدوائر الديبلوماسية على أنّ ما يواجهه لم يعد مجرّد أزمة سياسية وإنما أزمة كيانية!
كل ذلك يجري في وقت تشهد المنطقة لحظة مفصلية من بوابة الملف النووي الإيراني، ما يجعلها في مرحلة مخاض عسير أمام احتمال من اثنين: إما العودة إلى الاتفاق النووي، بما ينسحب على مجمل القضايا الاقليمية في العلاقة الشائكة بين ايران والولايات المتحدة، وإما سقوط التسوية النهائية بشكل نهائي، بكل ما يعنيه ذلك من تداعيات كارثية، تجعلنا عند حافة الانفجار الاقليمي الشامل.
في كلا الحالتين، لن يكون لبنان بمعزل عن التطورات. حتى المآلات الإيجابية المحتملة لن تمرّ من دون ثمن على لبنان، خصوصاً أننا نشهد اليوم مرحلة كباش حاد، تبدو معه كل احتمالات التصعيد واردة، بدليل ما يجري في فلسطين المحتلة اليوم، وهو تطوّر لا شك أنّ تداعياته ستطال لبنان، ولو بشكل غير مباشر في حدّه الأدنى.
ربّ قائل إنّ تطورات إقليمية من هذا القبيل ليست بالأمر الجديد، وإنّ تداعياتها المباشرة وغير المباشرة على لبنان هي تحصيل حاصل، لطالما امتلك هذا البلد القدرة على التكيّف معها، والخروج منها بأقل الأضرار الممكنة. لكنّ لبنان اليوم ليس لبنان الأمس. فما جرى منذ 17 تشرين الأول عام 2019 وحتى الآن، يبدو كافياً للقول، إنّ تلك القدرة الفريدة على التكيّف لم تعد ممكنة. فالبلاد تقف منذ فترة على حافة الجحيم، ووحدها المعجزة حالت حتى الآن دون الدفعة القاضية التي ترمي به في أتون من نيران الصراعات الاقليمية والدولية.
بهذا المعنى، فإنّ الربط بين الرمال اللبنانية المتحركة والرياح التي بدأت تتكون في الإقليم، يبدو أساسياً لتوقّع السيناريو الأسود الذي يتهدّد لبنان في كل لحظة، ويُدخله في مرحلة العتمة في السياسة كما في الكهرباء، في وقت تتآكل كل عوامل الصمود أمام الاهتزازات الخارجية.
هذا الربط لا يعني بأي شكل من الأشكال أنّه بات محكوماً على لبنان ان ينتظر مصيره السوداوي. الأزمة اللبنانية في الأساس داخلية، أقلّه في أدواتها، وبالتالي فإنّ حلّها يشكّل العنصر البديهي لتحصين البلاد، ولو جزئياً، من تأثيرات الصراع الخارجية، وهو واقع يقفز فوقه المعطّلون، الذين لا يقاربون ما يجري في الداخل والخارج إلّا بمنطق عفا عليه الزمن، وهو التضحية بكل شيء خدمة لمحاصصة هنا وطموح سياسي هناك.
هنا تكمن مأساة اللبنانيين، بين طبقة سياسية تتعالى على آلامهم، وترفض تقديم، ولو تنازل بسيط، لتشكيل حكومة جديدة، يقرّ الجميع بأنّها الشرط الأساسي للخروج من الأزمات الاقتصادية والاجتماعية التي باتت قوتاً يومياً، إن في لهيب أسعار السلع الرئيسية، من غذاء ودواء، أو في طوابير الانتظار امام محطات المحروقات، أو في العتمة التي يبشّر بها المسؤولون كل فترة وأخرى، ناهيك عن الحديث المتكرّر عن رفع الدعم الذي سيشكّل، من دون أدنى شك، الشرارة التي ستفجّر برميل البارود المحتقن، في بلد يعيش أكثر من نصف سكانه البالغ عددهم حوالى 7 ملايين نسمة تحت خطّ الفقر، وأكثر من 20 بالمئة يعيشون في فقر مدقع، وحيث أسعار الموادّ الغذائية تسجّل أرقاماً فلكية مقارنة بمثيلاتها في بلدان الشرق الأوسط، وذلك بشهادة البنك الدولي.
صحيح أنّ الساعة الصفر لرفع الدعم لم تحن بعد، لكن محاولات شراء الوقت لم تعد تنفع، وسيتجرّع اللبنانيون عاجلاً أم آجلاً الكأس المرّ، الذي يجعل المخيلة تذهب بعيداً في التفكير بتداعيات سيناريوهات ما بعد رفع الدعم، على وقع الارتفاع الهستيري في الأسعار، في ظلّ انهيار الليرة التي خسرت أكثر من 90 في المائة من قيمتها مقابل الدولار، وفي ظلّ أرقام فلكية بات معها اللبنانيون مضطرين الى تغيير سلّتهم الغذائية، التي ستصبح اللحوم بأنواعها المتعددة عملة صعبة فيها.
كل ذلك يعني أنّ الأمور تسير بانتظار لحظة الارتطام الكبير التي لن تتأخّر كثيراً، طالما أنّ اللبنانيين باتوا عالقين بطبقة سياسية تحرّكها الأهواء الخاصة، فلا يهمّها جائعاً ولا مريضاً ولا معوزاً، إلّا بقدر ما يمكن أن تستثمر مأساتهم لغايات فئوية.
الأخطر في ما يجري، وهو ما يمكن البناء عليه في توقّع المستقبل الأسود، أنّ اللبنانيين فقدوا الثقة بالكل: أولاً، بالطبقة السياسية؛ وثانياً، بالمجتمع الدولي؛ وثالثاً، وهنا الأهم، بالحراك الذي بات اسماً على غير مسمّى، وصارت اقصى إنجازاته، تدوينة عبثية على حسابات مواقع التواصل الاجتماعي، بعدما سقطت ورقة التوت عن الجميع، وبعدما انكشفت لعبة تبادل الأدوار بين لعبة قصور السياسة ولعبة الشارع.
ما سبق يعني أنّ لحظة الارتطام المنتظرة ستكون بالنسبة إلى الجميع أشبه بسيناريو يوم القيامة. لن يسلم أحدٌ من غضب الجوعى، ولن يكون بمقدور أحد أن يوقف خروجاً فوضوياً لفئات شعبية لم يعد لديها ما تخسره، سوى غضبها الذي سيُوجّه ضدّ الذين تسببوا بويلات وطن، كان حتى الأمس القريب قادراً على أن يقدّم نموذجاً للصمود أمام العواصف العاتية؛ أو ضدّ الذين تخاذلوا ومارسوا الخداع في الشارع، متماهين في ذلك مع الطبقة الحاكمة التي يفترض أنّهم خرجوا ليلة 17 تشرين الأول لإسقاطها، بحفلات رقصات الموت الاخيرة على تخوم جهنم، الذي بتنا منه على مسافة زمن قصير!