الأخبار- ابراهيم الأمين
لم تكن إسرائيل «تحفر» أصلاً في داخل إدارة ترامب. بل كانت «تحفر» في كل مؤسسات الإدارة الأميركية، من زاوية أن الاتفاق يشكل خطراً على المصالح الاستراتيجية للولايات المتحدة نفسها وليس على مصالح حلفائها فقط. لكن الفكرة تبدلت مع خروج فريق ترامب، وخصوصاً العاملين في وزارة الخارجية ومجلس الأمن القومي. وكان التركيز الجديد من قبل فرق النفوذ الإسرائيلي ــــ بالتعاون مع آخرين يمثّلون دولاً في المنطقة مثل السعودية والإمارات العربية ــــ على فكرة ألّا يترك أمر الملف الى فريق أوباما القديم. وتولت نائبة الرئيس كامالا هاريس دوراً كبيراً في طريقة اختيار الفريق المفترض به إدارة الملف. وكان واضحاً أن مهمة إبعاد روبرت مالي صعبة بعض الشيء. لكن كانت هناك إمكانية لتأليف فريق «يحاصر» مالي، ويضيّق هوامش المناورة عنده، ما ألزمه البحث عن طريقة للتفاهم المباشر مع الرئيس الأميركي الجديد، بما يؤمّن له حماية في مبادراته المتنوعة حيال طريقة إطلاق المفاوضات مع إيران.
ما حصل في الجانب الأميركي، كان له ما يقابله في الإدارة الإيرانية. صحيح أن بايدن رفع شعار الملف النووي خلال الانتخابات الرئاسية، لكن هذا الملف يمثل عنواناً مركزياً في الحياة السياسية داخل إيران، وبنداً رئيسياً في المعركة الرئاسية. وبدا واضحاً استعداد مجموعات كثيرة من المتنافسين في إيران لاستغلال الأمر بما يناسب مصلحة إيران، لكن بما ينعكس أيضاً أصواتاً في الانتخابات الرئاسية. ولكون الملف يشكّل عنصراً خلافياً في أصله وفصله وطريقة إدارته، سارع المرشد الأعلى في الجمهورية الإسلامية السيد علي خامنئي الى وضع سقوف تمنع «التراخي» في أي مفاوضات، لكنها لا تقفل الباب على العودة الى اتفاق. وبخلاف مصالح المتنافسين الداخليين في إيران، كان خامنئي يحصر الأمر في أن الدرس الذي تعلّمته إيران من التجربة مع الأميركين لا يمكن أن يعيدها مرة جديدة الى مربع الشكوك والخطأ، وهو ما انعكس تعليمات مفصلة حول آليات التواصل أو التفاوض مع الأميركيين بمشاركة جهات أخرى من العالم.
وسط هذا التنازع السياسي في الإدارتين الأميركية والإيرانية، كان الأوروبيون يحاولون انتزاع موقع متقدم لتحصيل مكاسب من أي اتفاق جديد. هم يريدون أيضاً تحسين موقعهم وزيادة حصتهم من نتائج الاتفاق، لكن الجديد الذي طرأ ولم يكن في مصلحة أميركا والآخرين، هو التطور غير البسيط في العلاقات الإيرانية مع كل من روسيا والصين، وتحقيق طهران اختراقات جدية في الاتحاد الأوروبي، الأمر الذي زاد من حدّة الانقسام داخل الفريق الأميركي المكلف بالمهمة، بين من يرى ضرورة توسيع جدول الأعمال بقصد تعديل الاتفاق ليشمل الملفات الساخنة في الإقليم، وبين من يعتقد أن الفرصة مؤاتية لإعادة تفعيل الاتفاق، ما يخلق مناخاً يسمح بإثارة الملفات الخلافية الأخرى. والفريق الثاني، الذي يقوده روبرت مالي بدعم واضح من مدير الاستخبارات المركزية الأميركية وليام بيرنز، ومن مجلس الأمن القومي، وحتى من بايدن شخصياً، لم يكن يقول بأن توسيع بنود الاتفاق ليس هدفاً. لكنه كان يرى بأن الخطوة الأولى تتطلب تفاهماً سريعاً وواضحاً مع الإيرانيين للعودة الى التزام الطرفين بالاتفاق، وبعدها يمكن الشروع في أي بحث آخر. ومن المرجح أن فريق مالي أدرك حقيقة لم يقرّ بها الآخرون، وهي أن القيادة الإيرانية العليا ممسكة بالملف بطريقة مختلفة عن المرة السابقة، وأن الهوامش الموجودة لدى الرئيس حسن روحاني والوزير محمد جواد ظريف ضاقت كثيراً، وأن في إيران من كان يُعدّ نفسه لمواجهة أكبر، على قاعدة أن يفوز ترامب بالانتخابات، أي أن طهران كانت في مناخ المواجهة لأربع سنوات إضافية. وبالتالي فإن الإجراءات الداخلية في إيران، سواء على صعيد العمل في البرنامج النووي أو على صعيد بناء القدرات الاقتصادية، قائمة أصلاً على أساس معركة مفتوحة وأكثر حدّة مع الأميركيين وحلفائهم الأوروبيين.
من دون إقرار علني، يتّضح من سياق المعطيات حول كواليس المحادثات المباشرة والاتصالات غير المباشرة، أن فريقاً أساسياً في الولايات المتحدة، يتقدّمه مالي، كان عارفاً تماماً بهذه الاستراتيجية الإيرانية، وهو لذلك دفع نحو «خطوات إبداعية» تستهدف الدخول مباشرة في محادثات مع إيران، من دون الحاجة الى وسطاء من أوروبا أو من غيرها من دول أو أطراف أو جهات تعمل في هذا الحقل. لكن مالي الذي احتاج الى مصادقة مسبقة من الرئيس بايدن على هذه الوجهة كان يلمس يومياً حجم الضغوط الهادفة الى محاصرته داخل الإدارة نفسها. حتى وصل الأمر الى السؤال المركزي:
هل نفاوض إيران إجرائياً على سبل العودة الى الاتفاق، أم نحن بصدد مفاوضات تستهدف عملياً تعديل الشروط والمضامين؟
عند هذا الحد، كانت إيران قد دخلت مرحلة حسم تصورها. قرار مرشد الجمهورية حاسم لجهة أنه لا يمكن استخدام الملف ضمن السباق الرئاسي الإيراني، وهذا يعني أنه لا مجال للمفاوض أن يبادر الى وضع إطار مساومات إذا كان هدفه الوصول الى اتفاق جديد قبل موعد الانتخابات في إيران. لكن خامنئي منع الطرف الآخر من القيام بما يعطل إمكانية العودة الى الاتفاق قبل الانتخابات. وكانت فلسفته محصورة بعبارات مقتضبة: «نحن نريد تحقيق مصلحة بلادنا، وهي تقوم على عدم التنازل السياسي أو الإجرائي، والوصول الى رفع جميع العقوبات، والحصول على ضمانات إضافية لمنع أي إدارة أميركية، سواء الحالية أو غيرها، من التعامل الاستنسابي في أي لحظة كما فعل ترامب». لكن الأهم مما تقدّم، كان في أن إيران لن تُدخل العناوين الساخنة أو الخلافية على جدول الأعمال، ولو كانت القنوات الخلفية تضجّ بالأسئلة حول ما يمكن للغرب تحصيله من إيران على ظهر تجديد الاتفاق النووي.
في هذا السياق، كان واضحاً أن إيران ليست صاحبة مصلحة في تفاوض مباشر وحصري مع الأميركيين. قررت إيران هذه المرة أن يكون الشركاء الأوروبيون والدوليون مشاركين بقوة في صياغة أي تفاهم جديد، وأن تصدر عنهم الضمانات الإضافية التي تخصّهم، بمعنى أنه إذا قررت الإدارة الأميركية الحالية أو غيرها اللجوء الى خطوة نقض للاتفاق، فلا يجوز للدول الشريكة في الاتفاق مجاراة الأميركيين كما يحصل الآن. وفي هذا السياق، فتحت الشهية الأوروبية للاستثمارات في إيران الباب أمام دور إضافي لأوروبا أو بعض دولها في التعجيل بعقد اتفاقات، وخصوصاً أن الجميع راقب وقرأ بتمعّن طبيعة الاتفاق الكبير بين إيران والصين، ويعرف أكثر تفاصيل تطور العلاقات الروسية ــــ الإيرانية، وخصوصاً بعد تجربة التعاون الاستراتيجي في سوريا.
ما هو متّفق عليه في فريق أميركا التفاوضي عنوان واحد: نريد تسوية، لكن لا نريد أن يبدو جو بايدن على شكل غبيّ أو منهزم!
في الجانب الأميركي، يبدو أن الأمر حُسم لناحية أنه لا يمكن إضافة بنود جديدة على الاتفاق، وهنا عاد الخلاف من جديد الى داخل الإدارة الأميركية. وما لا يرغب الأميركيون بإظهاره الى العلن هو النقاش الداخلي حول عنوان أساسي: ما هو المهم اليوم، مصلحة أميركا أم مصلحة حلفاء أميركا؟ وهل على أميركا أن تفقد المزيد من عناصر القوة والنفوذ خدمة لحلفاء لا يجيدون استثمار حتى عقوبات ترامب، وها هم يخسرون في أكثر من جبهة؟ وبحسب أحد المتابعين لهذه الاتصالات، فإن مسؤولاً أميركياً طرح مجموعة أسئلة على حلفاء له يعترضون على العودة الى المفاوضات مع إيران، قائلاً: «ما الذي تغيّر خلال سنوات الحصار الجديدة على إيران؟ هل نحن نقترب من انقلاب في الإدارة السياسية في طهران؟ هل تقدم التيار الداعي الى انفتاح أكبر علينا؟ هل تراجع نفوذ إيران العسكري والسياسي في بلدان الشرق الأوسط؟ وهل انهار الاقتصاد الإيراني وخرج المواطنون الى الشوارع؟ وهل تستطيع إسرائيل اليوم الادّعاء بقدرتها على شن حرب على كل الجبهة التي تقودها إيران في الشرق الأوسط؟ وهل نجحت السعودية في تحقيق تقدم في اليمن أو حتى في ساحات مثل لبنان أو سوريا أو العراق أو فلسطين؟ وماذا أنتجت اتفاقات التطبيع بين إسرائيل والإمارات العربية والبحرين والسودان؟ وهل تثقون بأن شمال إفريقيا سيكون أقرب إلينا من ذي قبل؟».
الأسئلة التي وصفها مراقب بـ«الكيدية»، استُخدمت فعلياً للقول بأن مصالح أميركا الأساسية تفرض نوعاً آخر من التفاوض، كما تفرض خطوات على الأرض، ولو أنها لا تناسب تماماً حلفاء أميركا، كما هي الحال في أفغانستان أو حتى العراق وسوريا، أو لجهة حثّ السعوديين على السير في مشروع لإنهاء الحرب في اليمن لمنع المزيد من الخسائر.
على هذا المنوال، تجرى المفاوضات حالياً. وفي مكان ما، عندما أثار الغربيون مباشرة أو نيابة عن الأميركيين ملفات ساخنة تخصّ ساحات الصراع من اليمن الى العراق وسوريا ولبنان وفلسطين، شعروا بأن المفاوض الإيراني لا يقدر على توفير إجابات. بل على العكس، يمكن القول الآن، إن جبهة المقاومة التي تقودها إيران تسير نحو رفع مستوى التحدي والتصعيد مع العدو الإسرائيلي من جهة، وهي تدرس إمكانية فرض معادلات جديدة في ساحات معينة مثل سوريا والعراق، وإن الحرب الدفاعية القائمة في اليمن مقبلة على تطورات تجعل الطرف الآخر في موقع صعب جداً ما لم يتمّ التوصل سريعاً الى اتفاق يناسب أنصار الله، بالإضافة الى كون الجبهة الأخرى تعاني من أزمات ثقة كبيرة في ما بينها ومن ضعف، بينما تواجه أدواتها في دول المنطقة حالة من الترهل تُفقدها حتى معنى الصراخ.
الأميركيون أمام اختبار الوقت. ولا يبدو أن في إيران من هو مستعجل لإلقاء أوراق على الطاولة بقصد الحصول على اتفاق جديد بأيّ ثمن. بل على العكس، ثمّة ميل لدى جهات نافذة في الولايات المتحدة وأوروبا لإنجاز الأمر ولو تطلّب الإخراج الشكلي وقتاً أو جهداً، لأن ما هو متفق عليه في فريق أميركا التفاوضي عنوان واحد: نريد تسوية، لكن لا نريد أن يبدو جو بايدن على شكل غبيّ أو منهزم!