سقطت اتفاقات التطبيع الخليجية مع إسرائيل سقوطاً مدوّياً على المستوى الشعبي، في أوّل اختبار حقيقي لها، في ظلّ توسّع العدوان على حيّ الشيخ جراح في القدس، والذي تحوّل إلى حرب على قطاع غزة. في المقابل، استطاعت المعارضات الوطنية في الخليج، أن تحقّق بعض المكاسب نتيجةَ تناغمها مع مواقف شعوبها. وعلى الأرجح، سيكون للتطورات الأخيرة أثرٌ عميق على مسار التطبيع الخليجي، الذي بدا في لحظة من اللحظات كأنه قدرٌ لا يردّ، حيث كانت شعوب الخليج الرافضة لتلك الاتفاقات تكتفي بالتململ الصامت، إذا ما استثنيت أصوات بعض الناشطين المعارضين المقيمين في المنافي. فهل لا يزال من الممكن بعد الآن، مثلاً، أن يتعامل حكّام الإمارات والبحرين بالحماسة والحرارة نفسَيهما مع الإسرائيليين؟
ولم تخلُ التفاعلات مع ما يَحدث في فلسطين مِن تقاذف اتهامات على خلفية التناحر بين الدول الخليجية المختلفة في مواقفها واصطفافاتها، إذ شنّ الذباب الإلكتروني في كلّ من السعودية والإمارات والبحرين هجوماً على قطر، متّهماً إيّاها بدعم «الإخوان» وليس القدس، ليردّ القطريون بتوجيه انتقادات إلى اتفاقات التطبيع. في هذا الوقت، برزت ضغوط شعبية داخلية على حكام السعودية (المشجّعين للتطبيع) والإمارات والبحرين، لسحب الاتفاقات مع العدوّ، فيما سحَقَ التعاطف الشعبي مع القضية الفلسطينية الذباب الإلكتروني في الدول الثلاث. ولم تصمد طويلاً الذرائع التي سِيقَت، أمام طغيان التعبير العفوي عن التعاطف، ومنها تلك التي يطلقها «الوطنجيّة» القائلون بأولوية القضايا المحلية، والنكايات التي يقول أصحابها إن السعودية تتعرّض يومياً لقصف يمني، ويجري توزيع الحلوى والكنافة في شوارع بعض المدن العربية احتفالاً.
وبلغ الأمر ببعض الذباب الإلكتروني إلى نبش مسألة احتلال صدام حسين للكويت في عام 1990، ووقوف الفلسطينيين إلى جانبه. وهي ذريعة جرى تداولها في السعودية والإمارات، وليس في الكويت نفسها، التي فَصلت منذ زمن طويل بين ذلك الماضي المؤلم، وبين تأييد القضية الفلسطينية، لتحسم أمرها بأنها آخر دولة عربية يمكن أن تطبّع علاقاتها مع إسرائيل. ويعود هذا، في جزء منه، إلى هامش الحريات السياسية الذي يتمتّع به الكويتيون، مقارنةً بباقي الخليجيين، حيث تعارض نسبة طاغية منهم التطبيع، فيما يجرّم القانون الكويتي التعامل مع إسرائيل، ويعاقب عليه بالسجن عشر سنوات مع غرامة قدرها خمسة آلاف دينار كويتي. وبالفعل، سارع رئيس مجلس الأمة الكويتي، مرزوق الغانم، المعروف بمواقفه المؤيدة للقضية الفلسطينية، للدعوة إلى عقد اجتماع طارئ للاتحاد البرلماني العربي لبحث العدوان الإسرائيلي على القدس. كما نفّذ كويتيون، أمس، اعتصاماً في ساحة الإرادة وسط العاصمة، استنكاراً للاعتداءات الإسرائيلية.
وتفاوت التعبير عن الغضب ضدّ العدوان بين دولة خليجية وأخرى، بتفاوت هامش الحرّيات السياسية الممنوحة للمواطنين في كلّ منها، وبتفاوت مدى التقارب بين آراء المواطنين وبين مواقف حكوماتهم. ويستطيع حكّام السعودية القول إنهم لم يقيموا علاقات مع إسرائيل، على رغم السرّ المعلَن الذي يفيد بأنهم مَن يقف وراء تشجيع اتفاقات التطبيع، وعلى رغم لفتات سعودية علنيّة تجاه إسرائيل مِن مِثل فتح الأجواء أمام طائراتها، وأخرى سريّة تولّى الإسرائيليون تأكيدها، من ضمنها لقاء بنيامين نتنياهو ومحمد بن سلمان في مدينة نيوم نهاية العام الماضي. وفي المملكة، وجدت الجيوش الإلكترونية نفسها عاجزة عن التحكّم بوسائل التواصل الاجتماعي، بسبب كثافة مشاركة السعوديين المتضامنين مع فلسطين، والتي طغت على حملة تلك الجيوش للاحتفال بالذكرى الرابعة لبيعة محمد بن سلمان ولياً للعهد. وكانت المعارضة السعودية، التي تزداد تنظيماً وثقة، حاضرة، إذ خرج رموزها لدعوة السعوديين إلى انتفاضة تؤازر الفلسطينيين.

على أن أكثر مَن بدا مرتبكاً هم حكّام الإمارات، ربّما لأنهم الأكثر إظهاراً للحماسة في التعامل مع الإسرائيليين. لذلك، كان للتفاعل الإماراتي مع ما يجري على أرض فلسطين، وقعٌ خاص، وخصوصاً عندما يأتي من شخصيات مرموقة، مِن مِثل زوجة حاكم الشارقة، الشيخة جواهر بنت محمد القاسمي، التي دعت المسلمين إلى تحمُّل مسؤوليتهم تجاه المسجد الأقصى، معتبرةً أنه «ليس مُلكاً لقائد ولا لحاكم ولا لملك. المسجد الأقصى ليس مسؤولية إخواننا الأحرار في فلسطين فقط. هذا مسجد المسلمين جميعاً ومسؤولية المسلمين جميعاً. أدعو الله أن يحفظه ويبارك من حوله ويطهره من عبث العابثين». من جهته، دعا المعارض، حمد الشامسي، سلطات بلاده إلى التراجع عن اتفاق التطبيع، معتبراً «ما يحدث فرصة لحكّام أبو ظبي للانسحاب من اتفاق التطبيع المشؤوم، وتسجيل موقف يُحسب لها أمام الرأي العام الإسلامي». وقارن إماراتيون بين مسارعة حكومتهم إلى التعبير عن تعاطفها مع كيان العدو بعد مقتل 45 من المتدينين المتشدّدين عند انهيار منصة جبل ميرون في نهاية الشهر الماضي، وبين بيانات رفع العتب الهزيلة التي أصدرتها مُكرهةً تعليقاً على ما يجري في فلسطين. وفي المقابل، خرج محسوبون على السلطة، مثل حمدي الحوسني، ليتحدّثوا عن «استفزاز فلسطيني» للإسرائيليين!
في البحرين، بدا أن ثمّة هوة سحيقة بين المواطنين المعارضين لتطبيع العلاقات مع تل أبيب، بسوادهم الأعظم، وبين السلطة المغتربة عن شعبها. بل إن ما يعانيه الشعب البحريني على يد سلطات بلاده، يحاكي ما يعانيه الفلسطينيون تحت الاحتلال، وخاصّة أن البلاد ترزح تحت احتلال سعودي عسكري مباشر. وكما في الكويت، نزل مواطنون إلى شوارع المنامة، في مسيرات تضامن مع فلسطين، رفعوا فيها الأعلام الفلسطينية مع صور رموز المعارضة البحرينية. وفي قطر التي ترفض، في العلن، تطبيع العلاقات مع كيان العدوّ، على رغم وجود تعامل مع الإسرائيليين، بدا أن ثمّة تطابقاً بين مواقف الحكومة وما عبّر عنه المواطنون، وكذلك ما عكسته وسائل الإعلام الرسمية وغير الرسمية. ولا يختلف الوضع كثيراً في سلطنة عمان، حيث رفضت مسقط أيضاً تطبيع العلاقات مع إسرائيل، على رغم زيارة رئيسَين للوزراء في إسرائيل لها في عامَي 1994 و2018. لكن الموقف المتقدّم لمفتي السلطنة، الشيخ أحمد الخليلي، حظي بتأييد واسع عُمانياً وعربياً، إذ قال «(إننا)، وبكل فخر، نحيّي إخوتنا المرابطين في الأرض المقدّسة ومسجدها المبارك على وقفتهم النبيلة في وجه من يحاول تدنيسه من أعداء الله المفسدين». وقارن مؤيّدون للمفتي وقوفه منفرداً في موقفه هذا، مع احتشاد 500 عالم وشيخ لوجوب الجهاد ضدّ سوريا وليس إسرائيل.
لن يكون هذا العدوان هو الأخير على الشعب الفلسطيني، وستعود الأنظمة الخليجية بعده إلى سيرتها الأولى. لكن أهمّية ما جرى تتأتّى من كَون «الهبّة الخليجية» كسرت حاجز الخوف من التعبير، وخصوصاً في دول كالسعودية والإمارات والبحرين، حيث يمكن لتغريدة واحدة معارِضة للحكّام أن تؤدّي بمطلقها إلى السجن، أو حتى إلى الإعدام.