الأخبار- يحيى دبوق
تنتهي جولة التصعيد، هذه المرّة، بين الاحتلال والفلسطينيين، بنتيجة واضحة جدّاً، تتبلور شيئاً فشيئاً، وإن لم يولد قرار التهدئة بعد، أو تأجّل أياماً. هذه النتيجة، التي يمكن البناء عليها مستقبلاً، تتمثّل في قاعدة اشتباك جديدة غير مكتوبة، تُفرض فرضاً على الاحتلال، وتبدو قادرة نسبياً على حماية الحقوق الفلسطينية في الضفّة والقدس المحتلّتَين، إن أُحسن استخدامها. وتُختصر تلك القاعدة بتدخُّل قطاع غزة عسكرياً، أو إمكانية تدخُّله، في أيّ تصعيد ضدّ الأراضي المحتلّة، وهو ما سيكون حاضراً على طاولة أصحاب القرار في تل أبيب، لدى اتخاذهم أيّ قرارات عدائية تستهدف سلب حقوق الفلسطينيين، كما كانت عليه الحال في حيّ الشيخ جرّاح، الذي استدعت قضيّته تحرّكاً احتجاجياً من المقدسيين، أعقبه اصطفاف الغزّيين إلى جانبهم.
ولعلّ أهمّ رسالة يمكن الحديث عنها هنا، وتحديداً في القدس وأراضي عام 1948، هي أن القضية الفلسطينية لا تزال حيّة لدى الجيل الصاعد، خلافاً لما راهن عليه العدو من إمكانية أن ينسى هذا الجيل قضيّته، ويقبل بالاحتلال باعتباره واقعاً قائماً لا يمكن صدّه. بدا واضحاً، بالنسبة إلى العدو، أن محاولاته في هذا الاتجاه فشلت، وأن الشابّ الفلسطيني الذي لم يعاين النكبة وتقهقر الحكام العرب في حروبهم ضدّ إسرائيل، يزداد اندفاعاً للتمسّك بأرضه ووطنه ومقدّساته. وتلك نتيجة يمكن البناء عليها، هي الأخرى، في مسار تدعيم الاقتدار الفلسطيني، وحماية الحقوق، وإدامة القضية ما دام الاحتلال قائماً. في الموازاة، فهم العدو أن اتجاهات التطبيع لدى الحكّام العرب، والاحتلاف معه في جبهة واحدة ضدّ محور المقاومة، لا محلّ لها في ميدان فلسطين ووجدانها، حيث البوصلة لا تزال على ما هي عليه، وقد ظهر تعزّزها لدى الجيل الجديد الرافض للتعايش مع الاحتلال.
في الساحة الفلسطينية، يبدو جليّاً أن العودة إلى الاتحاد، ورفض تجزئة الفلسطينيين وتقسيم تطلّعاتهم وأهدافهم ومصيرهم، هي السبيل الأوحد، وربّما الأمضى، لاستعادة الحقوق وحمايتها، بالاستناد إلى الاصطفاف الجماهيري إلى جانب المقاومة المسلّحة، التي تستخدم سلاحها وتُهدّد باستخدامه مع إرادة وقرار مسبقَين بتنفيذ التهديدات، لمساندة التحرّك الشعبي الرافض لإجراءات الاحتلال واعتداءاته، إضافة إلى دورها الحمائي للقضية الفلسطينية نفسها، التي لو تُركت لأيدي السلطة الفلسطينية، لما كان العدو ليجد ما يثنيه أو يدفعه إلى التفكير مرّتين، قبل اتخاذه قراراته العدائية.
في الجانب الإسرائيلي، تكثر الأسئلة التي تتعدّد إجاباتها وتتشابك: ما هو المخرج السياسي من جولة التصعيد الحالية؟ ومتى وكيف يمكن لإسرائيل إنهاؤها؟ هل بات أيّ قرار عدائي يصدر عن تل أبيب يستلزم تدخّلاً جماهيرياً، وفي أعقابه تدخّلاً عسكرياً في غزة؟ هذا السؤال الأخير هو أكثر ما يشغل بال صاحب القرار في تل أبيب، وهو ما يعمل عليه الآن، إن باتجاه منع تثبيت تلك المعادلة، أو أقلّه الحدّ من تأثيراتها على مجمل الوضع القائم بين إسرائيل والفلسطينيين. على ذلك، جاء القرار الإسرائيلي الذي كان يتجاذبه اتجاهان: الانكفاء المسبق قبل أيّ تصعيد عسكري مع غزة، بما يؤدّي إلى تراجع فلسطيني في القدس وغيرها من المناطق الفلسطينية المحتلّة المجزّأة جغرافياً، وبما يدفع القطاع إلى الامتناع عن تنفيذ ما يهدّد به. وتكمن أهمّية هذا الاتجاه في أنه كان سيؤمّن لإسرائيل هدوءاً فورياً على المدى القصير، ويُجنّبها مواجهة ليست في مصلحتها في هذه الفترة، التي تكثر فيها التحدّيات الأمنية وغير الأمنية، سواء في الإقليم، القريب أو البعيد نسبياً، أو في ما يتعلّق بوضعها الداخلي المتأزّم. لكن في المقابل، ثمّة تهديدات يكتنفها الخيار المذكور على المدى الطويل، تتمثّل في إمكانية أن يتسبّب بتثبيت قاعدة اشتباك جديدة، صلبة جدّاً، تدفع الفلسطينيين إلى تكرار ما فعلوه الآن، دائماً، لحماية حقوقهم.
هذا الاتجاه، الذي كان حاضراً على طاولة القرار في تل أبيب قبيل التصعيد الأخير، تَبيّن أن القرار الإسرائيلي ابتعد عنه في نهاية المطاف، ليميل إلى اعتماد اتجاه آخر، هو تدفيع الفلسطينيين ثمناً ما، يكون حاضراً لديهم في حال أراد الكيان العبري إعادة تفعيل اعتداءاته. يعني ذلك، باختصار، معاندة الواقع، وإن تسبّبت بمواجهة يُحرَص على أن تكون محدودة نسبياً، بما يسمح بتدفيع الفلسطينيين ثمن قاعدة الاشتباك الجديدة التي باتت متشكّلة فعلاً، لمنعهم لاحقاً من تفعيل قدراتهم العسكرية في غزة أو التهديد بها. وإن لم تؤدّ جولة التصعيد الحالية إلى ردع الفلسطينيين عن تفعيل القاعدة المذكورة لأهداف حمائية في القدس والضفة، فالأمل بأن تحدّ من فرص استخدامها. بناءً على ما تَقدّم، كان الخيار أياماً قتالية، سيدفع خلالها العدو ثمناً نسبياً، كان في ذاته ليدفعه إلى الامتناع عن التصعيد، لولا التهديد الكامن فيه على المدى الطويل. ومن هنا، يمكن تفسير كلام وزير الأمن، بني غانتس، عن «الفائدة الطويلة الأمد».
هل يعني ما تَقدّم أن قرار إعلان انتهاء المواجهة بات قريباً؟ هو كذلك بالفعل، لكن مشكلة الاحتلال تكمن في كيفية إخراج القرار، والتي تُعدّ في ذاتها جزءاً لا يتجزّأ من النتيجة نفسها. من هنا، سيكون العدو معنيّاً بأن يرفض الإقرار بأيّ تفاهمات مرتبطة بالتصعيد الحالي، سواء في ما يتعلّق بقراراته العدائية في القدس، بما يشمل حيّ الشيخ جراح والمسجد الأقصى، أو في وقف إطلاق النار مع قطاع غزة. ولذا، من المقدَّر أن يعمد الاحتلال إلى الحديث عن «الهدوء مقابل الهدوء»، وإن كان هو قد بدأ بحثّ «الوسطاء العرب» على الدفع باتجاه التهدئة مقابل تراجعه عن قراراته العدائية. في الوقت نفسه، سيسعى قادة العدو إلى تجميل انكفائهم في القدس، أمام الرأي العام الإسرائيلي وتحديداً المستوطنين، كي يقي نفسه تداعيات سلبية على الجبهة الداخلية، حيث احتدام الصراع السياسي قد يؤدي إلى انتخابات خامسة جديدة، وهو ما يتطلّب من الساسة تحسين صورتهم لكسب الأصوات في صناديق الاقتراع. وعليه، سيُعمل على فكّ الربط بين أيّ قرارات انكفائية والتصعيد مع غزة، وهو ما يَصعب تصوُّر نجاحه. وفقاً لكل ذلك، قد يأتي قرار التهدئة سريعاً، وقد يتأخّر أياماً إضافية. إذ إن الواقع الميداني الحالي يمثّل مصداقاً لإمكانية «التدحرج الميداني» نحو مواجهة واسعة لا يريدها طرفاها، وخاصة في ظلّ معادلة القوة القائمة بين الجانبين، والتي تسمح لطرف دون آخر بمزيد من التصعيد من أجل تحصيل فائدة سياسية لاحقة.
في المحصّلة، يمكن القول من الآن، وقبل وقف إطلاق النار، إن الجانب الفلسطيني انتصر في هذه المعركة، وثبّت إلى جانب انتصاره قاعدة اشتباك جديدة، ستكون فاعلة ومؤثّرة في حماية حقوقه، وهي إسناد سلاح غزة للقدس والضفة، حمائياً. ومع أن ثمن هذه المعادلة قد يكون مرتفعاً، إلا أنها تستأهل التضحيات، وخاصة أنها تُفشل واحدة من أهمّ الاستراتيجيات الإسرائيلية ضد القضية الفلسطينية، وهي تشتيت أهداف الفلسطينيين وتطلّعاتهم، وفقاً لتقسيمهم الجغرافي.