بين تاريخ الرابع من آب واليوم تراجع وقع الحضور الفرنسي في لبنان. منذ زيارة الرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون تدهورت العلاقة الفرنسية مع لبنان. اذ منذ البداية تم تضخيم الدور فكبرت الخيبة. صوّر الفرنسيون انفسهم على انهم المنقذ واستعادوا دور الأم الحنون الحاضن للبنان قبل ان تصبح لهم لغتهم الفوقية التي لم تخل من اهانة للسيادة ولو ان غالبية اللبنانيين يلتقون مع فرنسا في توصيفها للسياسيين بمسببي الأزمة. زخم الحضور الفرنسي بعد الرابع من آب لم يبق على حاله.
شكلت زيارة وزير الخارجية الفرنسية جان ايف لودريان رسالة للخارج أكثر من الداخل. اقتصر هدف زيارته الى لبنان للتأكيد على الانتخابات النيابية والقول ان التركيز هو على الاستحقاق النيابي وليس على الحكومة وخارجياً تؤكد حضورهم على الساحة اللبنانية. ولذا تعاكس الوجهة الفرنسية الآراء التي تتحدث عن فشل زيارة لودريان وتؤكد لمطلعين على سياستها أن الزيارة أدت غرضها والرسالة وصلت بأن الانتخابات النيابية اولوية.
سقط وزير الخارجية الفرنسية في ادارة لعبة المجتمع المدني والقوى التي وصفها بالتغييرية. اختيار الضيوف لم يكن موفقاً. في بلد طائفي كلبنان لا بد ان يشكو البعض من ضعف الحضور السني في تركيبة المجتمعين مع لودريان وبينهم ثلاثة موارنة، اثنان منهما مرشحان محتملان لرئاسة الجمهورية، استثنى السنة من تمثيل وازن واخطأ في التعاطي مع رئيس حكومة مكلف وزعيم أكبر كتلة نيابية سنية في لبنان. سببان أساسيان للغضب على التهميش الفرنسي للطائفة السنية. عدا عن اطلاق فكرة قوى تغييرية على احزاب وحركات سياسية وافراد هم من صلب التركيبة اللبنانية وان استقالوا. لا يخفي مطلعون ان التنظيم الذي تم بين السفارة الفرنسية في لبنان والخارجية الفرنسية ساده خلل بعدما غلب على الدعوات الموجهة للمشاركين طابع الصداقات الشخصية اكثر من صحة تمثيل قوى مجتمع مدني او قوى تغييرية.
بناء على نتائج زيارة لودريان ومضمون لقاءاته السياسية وغير السياسية تعتبر اوساط سياسية مطلعة أن هناك هزيمة تعرضت لها فرنسا التي لم تحسن انجاح مبادرتها من بعد الرابع من آب، وتريد تحميل مسؤولية الفشل الى الطبقة السياسية والقول اننا نحن اصدقاء الشعب اللبناني الذي وقع ضحية السياسيين. شعور الفرنسيين بالفشل تحول الى نقمة ودفعهم الى التلويح بعقوبات بمنع السفر لعدد من المسؤولين اللبنانيين الى اراضيها. اللائحة وان كانت لم تصبح بشكلها النهائي بعد فان المستبعد ان يتم الاعلان عنها وانما ابلاغ الاشخاص مباشرة. في الموازاة شرعت فرنسا تبحث في سجلات اللبنانيين من حاملي جنسيتها عن ثغرات قانونية كالتهرب من دفع الضرائب وغيرها لتكون ذريعة لفرض عقوبات من خلال القضاء. لكن حتى هذه العقوبات لم يكن لها وقعها الكبير ولا الفعالية المرجوة. ثمة وجهتا نظر تجاه الحضور الفرنسي في لبنان، واحدة تقول ان فرنسا لا تزال على حضورها ولا يمكن التغاضي عن دورها وهي المنفتحة على كل الاطياف السياسية ما يؤهلها لدور على طاولة اي حل اقليمي دولي متعلق بلبنان، لكن وجهة النظر الثانية تقول إن كل المتغيرات تحصل وهم خارج اللعبة. روسيا تتقدم وتدفع باتجاه الحل بينما فرنسا ليست على الطاولة الاقليمية. وقد بدأت شبكة المصالح الفرنسية تتدهور بعد الفشل في تشكيل حكومة كان للفرنسيين نصيبهم منها ولهم فيها ممثلون وعينهم على الكهرباء والمرفأ وعقود النفط والتنقيب. كلها احلام تساقطت بفعل فشل الرهان على حكومة جديدة. ولذا لم يتوان لودريان عن التلويح بعقوبات انطلاقاً من كون فرنسا الدولة الاوروبية الداعمة للبنان في المحافل الدولية قد تجد نفسها مضطرة لترك لبنان لقدره مع اول استحقاق دولي يواجهه. لم يعد الامر خافياً ان لبنان متجه الى واقع مغاير في علاقته مع الفرنسيين. كما لم تعد علاقة فرنسا كسابق عهدها مع رئيس الجمهورية اللبناني وقد حضر كبير ديبلوماسييها مهدداً في عمق القصر الرئاسي اللبناني ما يشكل سابقة في التعاطي الديبلوماسي.
حتى الأمس القريب كانت المبادرة الفرنسية اساساً في الطروحات العلاجية للأزمة، لكن زيارة لودريان حجّمت دور فرنسا وطوت صفحة مبادرتها باعتراف القوى المعنية بتشكيل الحكومة. الفكرة الاساسية هنا ان فرنسا نفضت يدها من الطبقة السياسية بمن فيهم الرئيس المكلف سعد الحريري وقفزت فوق المشهد المربك الى دعم انتخابات نيابية هي في علم الغيب. ولا يمكن ان تجرى انتخابات على خراب اذا لم يتضح المشهد الاقليمي والدولي المحيط بلبنان. ضاعت فرنسا في لبنان او ان اللبنانيين ضيعوا على انفسهم وجود حاضنة دولية الى جانبهم لكن النتيجة واحدة وهي ان لبنان يعيش ايامه الحرجة قبل الانهيار الكبير.