الأخبار- علي حيدر
يؤشر تحذير السيد نصر الله ومناورة جيش العدو إلى مجموعة حقائق وتقديرات تتصل بالمشهد الذي آلت اليه البيئة الإقليمية، وبشكل أخص إلى مخاوف العدو ممّا سيؤول إليه تطور معادلات القوة التي ستغيّر تقديرات كيان العدو إزاء المكانة الاستراتيجية التي يتمتع بها.
لا ينطلق تعامل قادة العدو وخبراؤه مع تحذيرات السيد نصر الله بكامل الجدية والمسؤولية فقط لكونه يتمتع على المستوى الشخصي بصفة الصدق، بل أيضاً لكون هذا الصدق محفور في وعي صنّاع القرار السياسي والأمني بعدما خبروا قيادته للمقاومة في مواجهة «إسرائيل» والتهديدات المحدقة بلبنان، على مدى نحو 3 عقود (منذ توليه الأمانة العامة لحزب الله عام 1992)، حيث تحطم خلالها الكثير من المخططات الاميركية والخيارات العدوانية الاسرائيلية، وتحررت في هذا السياق الغالبية العظمى من الأراضي اللبنانية المحتلة… وتمَّ إسقاط معادلات كانت تحكم قواعد المواجهة مع كيان العدو وإرساء معادلات جديدة غيَّرت مجرى الصراع معه، وأيضاً بعدما لمسوا كيف استطاع حزب الله، في ظل قيادته، تطوير قدراته بما تجاوز خيال أصدقائه وأعدائه، فتحوّل معه لبنان، «الحلقة الأضعف في الدول العربية» بحسب تعبير بن غوريون، الى سدّ منيع في مواجهة أي مخاطر خارجية، إسرائيلية وتكفيرية، والى رأس حربة في محور المقاومة، والحلقة الأشد خطورة على الأمن القومي الاسرائيلي.
من هنا، عندما يرِد أن قيادة العدو تُبلور قراراتها انطلاقاً من مجموعة اعتبارات، من ضمنها، وبشكل رئيسي، مواقف قيادة حزب الله وما صدر على لسان أمينه العام تحديداً، فهذا ليس كلاماً في مقام المدح والثناء، بل توصيف لمُحدِّد أساسي في بلورة تقديرات الأجهزة المختصة في كيان العدو للسيناريوات التي قد تلي أي مبادرة عملياتية، وترجمة للقواعد التي تحكم آليات التقدير في المؤسّستين الأمنية والسياسية في تل أبيب.
يعني ذلك أن العدو سيحذف من دائرة احتمالاته الرهان على أن يشكل الوضع الداخلي اللبناني في أبعاده الاقتصادية والصحية والسياسية قيداً على طبيعة (وحجم وساحة) ردّ حزب الله في مقابل أي خطأ عدواني مفترض. وأظهر الحزب للعدو، بالموقف الصريح على لسان أمينه العام، أن المقاومة تنظر الى المعادلة بشكل مغاير لما يفترضه، وهي أن تداعيات وكلفة عدم الرد الجدي والملائم على أي ضربات عسكرية وأمنية اسرائيلية، ستكون أشد خطورة بأضعاف على المقاومة ولبنان والمنطقة، من كلفة أي ردّ وتداعياته مهما كانت. ويمكن التقدير أن قيادة العدو وأجهزته المختصة أكثر إدراكاً أن هذه الحقيقة متأصلة في وعي حزب الله وقراراته وخياراته.
في ضوء ذلك، تصبح قيادة العدو مُلزمة بأن تقارب هذه المحطة أيضاً، من زاوية مقارنة كلفة الامتناع عن المبادرة مع الكلفة التي ستترتّب على ردّ حزب الله، بالمعنى الواسع لمفهوم الكلفة. لأن تداعياتها ستتجاوز الجانب العسكري والمادي، باتجاه تعزيز معادلات الردع القائمة التي قد تترك آثارها على مجمل المنطقة.
مع ذلك، تجدر الإشارة الى أن المقاومة لا تربط إجراءاتها بالتقديرات السياسية. فهي وإن كانت – على سبيل الافتراض – تستبعد أن يرتكب العدو أي حماقة عسكرية، لأنه يعرف كلفتها، إلا أنه عندما يكون في وضعية أقصى الجاهزية والاستعداد، وفي ظل وجود احتمال معقول لارتكابه أخطاءً في التقدير لسبب أو لآخر (وهو ما حصل في أكثر من محطة سابقة)، فإنها تتعامل في هذه الحالة مع درجة الخطورة، وليس مع درجة احتمال تحقق هذا السيناريو، وتصبح هذه الإجراءات (للمقاومة) أكثر إلحاحاً عندما يتقاطع ارتفاع درجة الخطورة مع أكثر من دافع للعدو من أجل الاعتداء، من دون تجاهل فعالية القيود التي لا تزال تكبحه عن تنفيذ ذلك (ويُرجّح أن تبقى مفاعيلها الكبحية حاضرة على طاولة القرار السياسي والأمني لدى العدو).
في المقابل، لم يكن قرار جيش العدو إجراء مناورة عسكرية هي الأكبر في تاريخه بحسب تقارير وسائل الاعلام الاسرائيلية، مجرد إجراء عسكري روتيني، بل هي نتاج تقدير وضع أجرته القيادة العسكرية، وتتويج لمسار من المناورات المستمرة.
وبحسب ما تم الإعلان عنه في كيان العدو، فإن هذه المناورة تحاكي نشوب حرب متعددة الساحات ومتعددة الأبعاد، ولمدة شهر. وتتضمن الأنشطة العملياتية كافة التي يُقدّر أن تشهدها أيّ حرب مفترضة، على مستوى الهجوم والدفاع. ويتم في ضوئها اختبار «المفهوم العملياتي» الذي طوَّرته قيادة جيش العدو بما يتلاءم مع تطور التهديدات المتسارعة، في ظل تطور قدرات محور المقاومة في لبنان وسوريا والمنطقة. وممّا يلفت في هذه المناورة أيضاً، أنه سيتم جزء منها في قبرص، انطلاقاً من أن المشهد الطوبوغرافي يشبه الى حدّ كبير لبنان.
من أجل فهم السياق العسكري لقرار المناورة، من الأهمية استعادة الهم الأساسي الذي كان ولا يزال يقضّ مضاجع قيادتي الجيش والاستخبارات في كيان العدو. فقد تولى أفيف كوخافي رئاسة أركان الجيش مطلع العام 2019، وهو يحمل راية كيفية إعادة توسيع الهوّة النوعية بين قوة المقاومة في لبنان وفلسطين مع الجيش الاسرائيلي، بعدما نجحت المقاومة في تقليصها. وهو أمر سبق أن طرحه في أول جلسة عقدها بتاريخ 16/1/2019، محذّراً فيها من هذا المسار، ومؤكداً أن «على الجيش الإسرائيلي التحرك لتغيير المسار وبسرعة» («الأخبار»، 10 كانون الأول 2019). في السياق نفسه يأتي إقرار رئيس قسم الأبحاث في شعبة الاستخبارات العسكرية آنذاك، العميد درور شالوم، أمام العشرات من كبار الضباط، بما سمّاه سباق تسلح بين إسرائيل ومحور إيران – سوريا – حزب الله، مشيراً الى أن «الجانب الثاني طوَّر قدرات تكنولوجية وقلَّص فجوات مقابل الجيش الإسرائيلي». ويمكن أن نضيف الى ذلك، أيضاً، أن كوخافي في الجلسة نفسها، وخلال عرض التقدير الاستخباري، «سجّل بخط يده بشكل منظّم ملاحظات ونقاطاً إجمالية، بلغت حوالى 20 بنداً، تُفصّل تحولات استراتيجية حصلت في الشرق الأوسط في السنة الأخيرة، ولها تأثير سلبي على الوضع الأمني لإسرائيل».
الأخطر أن ذلك كله تحقّق قبل أن يسلم قادة العدو بفشل الرهان على الضغوط الاقتصادية القصوى من أجل إخضاع الجمهورية الإسلامية في إيران، التي كانوا يراهنون على أن تؤدي الى تداعيات استراتيجية على مستوى المنطقة بأكملها. فكيف الآن والولايات المتحدة تفاوض من أجل العودة الى الاتفاق النووي ورفع العقوبات عن إيران؟
تؤشر هذه المعطيات الى المخاوف التي تُطرح على طاولة التقدير والقرار الاستخباري والعسكري في كيان العدو، ويمكن بسهولة استشراف سوداوية السيناريوات التي يرجّحون أنها تنتظر «إسرائيل»، وخطورة مآلات تطور معادلات القوة في لبنان وسوريا وبقية ساحات محور المقاومة. وفي هذا الإطار، يوصِّف جيش العدو، وبشكل رسمي، القدرات الدقيقة والمتطورة لحزب الله، بأنها تمثّل تهديداً استراتيجياً خطيراً على الكيان الاسرائيلي في المرحلة الحالية، وتهدد وجوده في المستقبل.
في ضوء كل ما تقدم، يصبح مفهوماً إصرار جيش العدو على إجراء مناورات متتالية، وفق وتيرة و»نوعية» وأحجام غير مسبوقة، كما شهدنا ذلك خلال الأشهر الماضية. ويندرج ذلك ضمن محاولة إعداد خيارات عملياتية تتلاءم مع حجم التهديدات التي تنتظر «إسرائيل». مع ذلك، فإن تركيز وسائل الاعلام الاسرائيلية على بعض التفاصيل المتصلة بهذه المناورة، لا يتم من دون موافقة الرقيب العسكري. ويعني ذلك أنه تجري محاولة توظيف ذلك في سياق ردعيّ. لكن ما يغفله العدو في هذه المسألة هو أن المفاعيل الردعية غير مرتبطة حصراً بمن يوجه الرسائل، بل بنحو رئيسي بمن سيتلقّاها وكيف سيتعامل معها، وإذا ما كانت ستترك آثارها المفترضة على تقديراته وخياراته، وخاصة أن الردع حالة «إدراكية» ساحتها الوعي، وهو مفهوم متحرك يتأثر بمجموعة عوامل واعتبارات، إحداها نيّات وقدرات الطرف الذي وجّه الرسائل.
تبقى مسألة جوهرية تتصل بمدة الشهر التي ستستغرقها الحرب المفترضة، وما تنطوي عليه من رسائل ودلالات لا تقل أهمية عن الأبعاد الأخرى للحرب. وهي أن جيش العدو أدرك أن فرضية شنّ حرب سريعة وحاسمة كالتي كان يتغنّى بها قادَتُه، في فترات سابقة، أصبحت وهماً، نتيجة تطور قدرات المقاومة وخبراتها. والسؤال الأكثر أهمية في هذا السياق، كيف سيتحمل كيان العدو تساقط آلاف الصواريخ الثقيلة يومياً على جبهته الداخلية، ولمدة شهر، وبما لم يشهده في تاريخه، كما سبق أن أقرّت بذلك إحدى الوثائق الرسمية لجيش الاحتلال في مرحلة سابقة؟