في الـ28 من هذا الشهر تنتهي ولاية السنوات الثلاث لمجلس القضاء الاعلى. من دون انتخاب خلف للأعضاء السبعة المنتهية ولايتهم، ما خلا الثلاثة الحكميين، فإن المجلس مرشح كي يلتحق بالانهيار المقبلة عليه البلاد، والوقوع في شغور جدّي الى ما يشبه انعدام الوجود
قبل ذلك، لا سبيل الى ممارسة المجلس المنتهية ولايته صلاحياته بداعي تصريف الاعمال، ولا الاخذ بنظرية استمرار المرفق العام. من غير المؤكد أن إعادة تكوينه ستكون سهلة. رئيسه القاضي عبود سيوجّه قريباً دعوة الى انتخاب العضوين من رؤساء الغرف في محكمة التمييز. إجراء غير محفوف بمشكلات. العقبة المفترضة تتمثل في مرسوم تعيين خمسة أعضاء بمرسوم عادي بناءً على اقتراح وزيرة العدل ماري كلود نجم. تكمن المشكلة في التوقيعين الآخرين الدستوريين الملازمين، رئيس الجمهورية ميشال عون إذا أحجم ورئيس حكومة تصريف الاعمال حسان دياب المتمسك برفض التئام مجلس الوزراء أو أي تعيينات. لا يحتاج المرسوم العادي الى مروره في مجلس الوزراء، بل يصح إمراره على طريقة الموافقات الاستثنائية، الطائرة من فوق رؤوس الوزراء. من ذلك الاعتقاد أن مصير مجلس القضاء الأعلى معلّق على قرار دياب: يوقّع أو لا يوقّع.
حتى انتهاء ولايته، يعكّز مجلس القضاء على ثمانية أعضاء بعد إحالة القاضي كلود كرم على التقاعد، ومن قبل استقالة القاضي منذر ذبيان من جراء ملاحقة تأديبية له. نصاب انعقاده متوافر، وكذلك غالبيته.
تنقضي ولاية المجلس من غير أن ينجز المهمة التي باشرها قبل 14 شهراً، وأنجزها في آذار 2020، ثم اصطدمت بعوائق سياسية: تشكيلات قضائية شملت 550 قاضياً استمر الإعداد لها ثلاثة أشهر قبل أن تبصر النور. أقرّها بإجماع أعضائه التسعة (بعد استقالة ذبيان). تحفّظت عنها وزيرة العدل وسجلت ملاحظات لم يأخذ بها مجلس القضاء، فالتأم ثانية وأصرّ عليها. وقّعتها الوزيرة فتوقفت عند رئيس الجمهورية الذي لم يمهرها لرفضه إياها. اندلع إذذاك سجال الاجتهادات الدستورية والقانونية: لا مهلة مقيِّدة لرئيس الجمهورية لتوقيع مرسوم عادي على غرار مرسوم يصدر عن مجلس الوزراء، وليس ثمة ما ـ أو مَن ـ يفرض عليه التوقيع. في المقابل، تبعاً لقانون القضاء العدلي، إصرار مجلس القضاء الاعلى للمرة الثانية على التشكيلات كما أعدّها يجعلها نافذة وملزمة. مذذاك، كلا الفريقين، رئيس الجمهورية ومجلس القضاء، كل على موقفه المتصلب.
عندما يقيّم رئيس مجلس القضاء الأعلى تجربة السنوات الثلاث المنصرمة، يقول إن المحاولة كانت تستحق: امكانات النجاح ليست مؤكدة أو متوافرة دائماً، إلا أن من الواجب تراكمها. حاولنا أن نكون في مستوى التحديات، لكننا اصطدمنا بالنظام السياسي الذي حاربنا لعجزه عن احتمال تشكيلات قضائية مستقلة. ارتطامنا به كان حتمياً. للمجلس إنجازات مهمة مماثلة للتشكيلات. بدأ أولاً تنقية نفسه بنفسه من الداخل بكتمان. أحال تسعة قضاة دفعة واحدة خلال سنة ونصف سنة على التفتيش القضائي. بين هؤلاء مَن طلب إنهاء خدمته واستقال، وبينهم مَن طُرد، وثمة مَن يُلاحق جزائياً. اتخذ المجلس أيضاً إجراءات عاجلة لمتابعة المحاكمات من بعد، في ظل جائحة كورونا.
ما يجزم به القاضي عبود أكثر من مرة أن مجلس القضاء لم يفشل. في ميزان واحد، يضع الذين أطروا التشكيلات وهم يعوّلون ضمناً على رفضها والذين هاجموها لأنها لم تحفظ لأحد حصة فيها. ليست المرة الاولى تدور لعبة البلياردو اللبنانية على هذا النحو: إصابة طابة بطابة أخرى.
ما يقوله رئيس المجلس: ليست ايضاً المرة الاولى يُقر تشكيلات بالإجماع. من الواجب إحداث مقارنة بسيطة بين ما كان يحدث قبلاً وما حدث معنا. في العقود المنصرمة، كانت المجالس المتعاقبة تقرّها بالإجماع الى حد بعيد، تسبقها زيارة القضاة أعضاء المجلس للمرجعيات الدينية والسياسية يسألونها مَن تريد وفي أي محكمة أو هيئة أو موقع، ومن ثمّ تصدر بالإجماع بعد تزوّد تشكيلات تقرّرها المراجع تلك في سياق محاصصة متفق عليها.
يضيف: نحن لم نفعل ذلك. إجماعنا لا يشبه إجماع المجالس السابقة. لم نزر أحداً ولم يزرنا أحد أو يخابرنا ويطلب منا. لم أقبل التحدث مع أي أحد. منذ اليوم الاول لمباشرة الإعداد للتشكيلات، وهي المرة الاولى في تاريخ قضائنا، وضعنا معايير موضوعية خطية اشترك أعضاء المجلس التسعة حينذاك فيها، آخذين في الحسبان الكفاية والاهلية والانتاجية والاقدمية. من ثمّ أصررت ـ وهي المرة الاولى أيضاً ـ على وضع اسباب موجبة للتشكيلات تشرح مقتضياتها والمعايير المبنية عليها. في ختامها قلنا إن المجلس يتحمّل مسؤولية التشكيلات القضائية إذا نجحت، ويتحمّل مسؤولية فشلها إذا فشلت فيتنحى. هذه أيضاً سابقة. تمسّكنا بالإجماع عليها مرتين، كي نؤكّد أن أحداً في المجلس لا يملك حق الفيتو لتجميدها، أو الحؤول دون إصدارها. تصدر بالاكثرية. لرئيس المجلس صوتان، أحدهما يرجّح الكفة في حال تساوت الاصوات. يمكنني أن لا أوافق أو أي عضو آخر، الا أن ذلك لا يمنع إصدارها. صحيح ما شاع وأُخذ علينا أن المدعي العام التمييزي طلب قاضيين في التشكيلات. صحيح إنه قال ألا يحق لي باثنين. ما قاله إنه يحتاج الى قاضيين مساعدين له الى جانبه، يعرفهما وخَبِرهما ما دامت النيابة العامة التمييزية وحدة لا تتجزأ. وافقته ووافقناه، لأن الامر كذلك. لا أنا ولا هو، لا أحد أياً يكن، يملك حق فيتو في منع صدورها. الآن، التشكيلات القضائية واقفة عند رئيس الجمهورية. خرجت من عندنا على النحو الذي أردناه وفق صلاحياتنا واختصاصاتنا. اتخذنا قرارنا وفق قوانينا واعتبرناه تجربة أولى في استقلالية السلطة القضائية. اخترنا أحسن الموجود، ونحن نعرف أن القضاء لا يخلو من الشوائب والعيوب. ليس كل القضاة أحراراً. كنت نفيت لرئيس الجمهورية في وقت سابق أي محاصصة فيها، وأنا مسؤول عن كل قاضٍ. لم نظلم الرئيس، ولم نعطِ أحداً آخر أي حصة، ولا نزال ننتظر.
عندما يتحدث عمّا يسمّى «ظاهرة» المدعية العامة الاستئنافية في جبل لبنان القاضية غادة عون، يقول القاضي عبود إن المجلس اتخذ الاجراءات التي تدعوه اليها صلاحياته والقوانين: شأنها شأن أي قاض آخر، وفي معزل عن الخصم أياً تكن وطأة ارتكاباته، لا يسعنا متى كثرت الشكاوى على أي قاض سوى اتخاذ تدابير ثلاثة متلازمة تسهر على حسن سير القضاء، لا أن ندفن رؤوسنا في الرمال: الطلب من المدعي العام التمييزي رئيس النيابات العامة اتخاذ الاجراءات القانونية التي تنص عليها صلاحياته، دعوناها الى المثول امام مجلس القضاء الاعلى، حضضنا هيئة التفتيش القضائي على اتخاذ الاجراءات المرتبطة بالشكاوى تلك. ما حدث بعد ذلك ان وزّع المدعي العام التمييزي ملفاتها على قضاة آخرين. حضرت أمامنا فأبلغنا اليها ان ما قامت به غير صائب ولا يحق لها. الآن ننتظر ما ستقوم به هيئة التفتيش القضائي. لم تأبه لذلك كله، واستمرت في ملفاتها واعمالها.
ما يضيفه: ليس لي أن أقول أن ثمة مرجعية سياسية تحتمي بها القاضية، إلا أن ما حدث غير مسبوق. عندما أقدم قاضي الامور المستعجلة في صور محمد مازح على إصدار قرار قرنه بعقوبة، يمنع وسائل الاعلام المحلية والاجنبية من استصراح السفيرة الاميركية في بيروت دوروثي شيا، واعتباره أن تصريحاتها تهدد السلم الاهلي، أحدث ضجة في البلاد وانقسمت من حوله، وأدلى بدوره بتصريحات صحافية. دعوناه في الـ30 من حزيران 2020 الى المثول امام مجلس القضاء لإخلاله بموجب التحفظ، فاختار الاستقالة وذهب، بعدما أحالته وزيرة العدل على هيئة التفتيش القضائي. بعد أيام في 7 تموز دافع عنه الامين العام لحزب الله السيد حسن نصر الله وأشاد به، إلا أن الأمر انطوى من دون قلاقل عند حدّ استقالته.