على رغم تصاعد الاعتداءات الإسرائيلية على المقدسيين والمسجد الأقصى، بقي التنسيق الأمني الثابت الوحيد في قاموس السلطة الفلسطينية، حتى في ظلّ اشتداد سخونة الوضع في القدس المحتلة وتزايد هجمات المستوطنين. ومع أن رئيس السلطة، محمود عباس، أعلن وقف العمل بكلّ الاتفاقات مع الإسرائيليين العام الماضي، إلا أنه سرعان ما أعاد العمل بها، لتستمرّ الاتصالات بين أجهزة أمن السلطة وأمن العدو كالمعتاد من تحت الطاولة، ومن ثمّ فوقها
يؤكد مصدر مطلع، في حديث إلى «الأخبار»، أن «التنسيق الأمني مستمرّ والدلائل ملحوظة، كإخلاء السلطة مراكز المدن والنقاط والحواجز في مناطق (أ) قبل اقتحام جيش العدو بوقت قصير، إضافة إلى استمرار اقتحامات مستوطنين في بعض المناطق التي فيها مراكز شرطية فلسطينية». وفي الأصل، يرى مراقبون أن إيقاف التنسيق فعلياً يعني صداماً وتوترات بين أجهزة أمن الجانبين، وهو ما لم يحدث. يقول المصدر: «جهازا المخابرات والوقائي وغيرهما عادوا إلى التنقّل بالمركبات الرسمية والمرور عبر الحواجز الإسرائيلية، وقد سبق أن منع العدو هذه المركبات من المرور بين المحافظات خلال إعلان السلطة وقف التنسيق المباشر، وقد تحرّك أمن السلطة بمركبات مدنية آنذاك بعكس اليوم، ما يؤكد أن التنسيق يجري على أشدّه».
ما يُعرف بـ«التنسيق الأمني العسكري» لا يقتصر على الاتصالات المباشرة بين أجهزة أمن لتبليغ البعض عن تحرّكات الآخر، أو عن مهمّات أمنية في الحيّز الجغرافي المعقّد في الضفة والمقسّم إلى: أ، ب، ج، بل يمتدّ ليصل إلى مهمّات تنفّذها السلطة وترفع بها تقارير دورية إلى أمن العدو، من مثل: مراقبة الوضع المالي للشخصيات المقرّبة من فصائل المقاومة، ضبط أسلحة وخلايا للمقاومين والإبلاغ عنها بعد اعتقال أصحابها. كما يؤكد أسرى محرَّرون أنهم وجدوا معلومات كاملة لدى مخابرات العدو تطابق معلومات وقضايا حقّقت السلطة فيها معهم.
الأسوأ أن سيطرة أجهزة السلطة على مفاصل الوزارات والمؤسّسات الحكومية في الضفة أدّت إلى تفريخ شخصيات أمنية كثيرة تعمل لحسابها، على رغم أن تلك الشخصيات غير موظّفة في الأجهزة الأمنية نفسها. ويُطلَق على الواحد من هؤلاء لقب «مندوب»، وهو ينقل معلومات كاملة عمّا يراه ويلحظه في محيطه مقابل مبلغ زهيد قد يصل إلى 300 شيكل (أقل من 100 دولار أميركي) في أفضل الأحوال، إضافة إلى بطاقات شحن هاتفية من الجهاز الأمني الذي يعمل له. هكذا، يخدم «المندوبون» عمل السلطة في كلّ المهمات الأمنية، بما فيها مهمّات ملاحقة المقاومين ومَن يحوز السلاح والمركبات الغريبة وغيرها.
أمّا المشهد الأكثر وضوحاً، ولا يزال يتكرّر، فهو قمع الفلسطينيين مباشرة ومنعهم من المواجهة. وفي الأحداث الأخيرة، سُجّلت اعتداءات واعتقالات نفّذها أمن السلطة بحق شبان على خلفية إلقائهم الحجارة صوب جنود الاحتلال على نقاط التماس أو مشاركتهم في تظاهرات مع المقاومة. وهذه الطريقة، وفق مراقبين، لا تستعملها أجهزة السلطة دائماً، بل عندما يكون هناك قرار سياسي بعدم المواجهة، إذ في أحيان أخرى، تسمح رام الله بالمواجهات على نقاط التماس جميعها. وآخر تلك الحوادث سجّله الصحافي نضال النتشة في منطقة باب الزاوية في الخليل قبل أيام، إذ يوثق فيديو قوة من «الأمن الوطني» تعتدي بالضرب على شابين بعد اعتقالهما من منطقة المواجهات، ويصرخ أحد الشبّان مستنكراً: «ليش تضربني، بِعْتِ الأقصى أنا؟». وقبل أشهر، تنكّرت قوة من الجهاز نفسه بمركبة مدنية وحاولت على طريقة المستعربين اختطاف شبان من المواجهات في باب الزاوية، لكنها أخفقت، ولم يصدر أمن السلطة آنذاك بياناً توضيحياً. وفي وقت لاحق، تعرّض الصحافي النتشة للتهديد.
في المقابل، بات الناس أكثر وعياً وإدراكاً لمفهوم التنسيق وخطورته، إذ تتعالى الأصوات أكثر من ذي قبل خلال المسيرات الشعبية: «التنسيق ليش ليش… وإحنا تحت رصاص الجيش»، «شعبي بده R.P.G… مش تنسيق و C.I.A». وكما يبدو، أخطر ما في التنسيق إدراك السلطة استحالة التخلّص منه أو عدم رغبتها في ذلك، لأنه حوّل دورها إلى شركة خدمات أمنية، بل بات هو أساس وجودها، فعندما لا تلتزم به كاملاً، يصير وجودها في مهبّ الريح. إزاء ذلك، علمت «الأخبار»، من مصادر أمنية، أن أمن السلطة حالياً، وفي ذروة موجة المواجهات على نقاط التماس في الضفة، قرّر غض النظر عن المواجهات الشعبية وإلقاء الحجارة، للتماهي ولو مؤقّتاً مع الموقف الشعبي من اقتحام الأقصى والمشهد في القدس.